الإسلام في أجْمَل صُوَره هو الانقياد التام لله تعالى، وهو الاستسلام الكامِلُ لرب العالمين طاعة وخوفا ورجاء وتسبيحا بحمده كما اسْتَسْلَم الكوْنُ كُلُّهُ له سبحانه ليقع الانسجامُ التام بين الإنسان المُسْتَسْلِمِ لِلَّه بالطاعة وتحكيم مَنْهجه في كل مجالات الحياة، وبَين الكوْن المُسَخَّر لنفْع الإنسان، لأن خاِلقَ الكَوْن وخالقَ الإنسان واحدٌ وهو الله تعالى، والله تعالى الذي لم يَخْلُق الكوْنَ عَبَثًا هو الذي لم يَخْلُق الإنسان عبثاً، وإنما خَلَقَ الكون لصالح الإنسان، وخلقَ الإنسان لعبادة الله تعالى بالسَّيْر في الكَوْن وَفْقَ المنهج المَسْطورِ لَهُ مُنْذُ وجوده على الأرْضِ كَيْ لا يضل ويَشْقى، ولا يَجُوعَ ولا يعْرَى، ولا يظْمَأ ولا يتعرَّضَ لِحَر الشمس وزمهرير البَرْدِ.
فالمُتَّجَهُ بين الكوْن والإنسان واحِدٌ هو الله تعالى، ومرجعية التَّلَقِّي واحِدة هي الله تعالى، منه الحُكم، ومنه التَّلقِّي للأوامر، والمُهمة واحدة هي الطاعة التامة لأمر الخالق المالك المُهيمن، وهذا هو السر العظيم في الانسجام التام بين الإنسان الساجد والكون المسخر له.
أما الهَوَى في أبشع صوره فهو تأليهُ الإنسان وَجَعْلُه نِداًّ لله تعالى زُوراً وبُهتاناً، وما ذلك إلا لأنّ الإنسان يَلِدُ ويُولَدُ، ويموتُ ويَفْنَى، ويخاف ويخشى، ويجوع ويظمأ ويشيخ ويَهْرَمُ، ويَغْفُل وينسى، ويَجْهَل مآله ومستقبله، ويعْجِزُ وينهزم رغما عن إرادته، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، يُريدُ ولا يحقِّق لنفسه إلا ما أراده الله تعالى له. بينما الله تعالى الحيُّ القيوم إذا أراد شيئا يقـول له: كُنْ فيكون.
ومَعَ العجْز الإنساني السافر تجدُ الإنسان يتطاوَل على مقام الألوهية فيزيّن له هواه تنصيب نفسه إلها من دُون الله يَفْرض على المستضعفين الخضوعَ له بدون حقٍّ طُغْياناً وتجبُّراً.
وذلك هو الاستعْلاءُ الذَّميم الُمذِلُّ الذي تَسَرْبَلَ به فرعَوْنُ فجعله الله عبرة كما يحكي عنه القرآن: {فحَشَر فَنَادَى فَقَالَ: أَنَا رَبكُم الأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخرَةِ والأولى} (النازعات: 24).
كان عقابُ فرعون شديدا لأنه سَطَا على حقوق الربوبيَّة، واغْتصَبَ صِفاتِ الألوهية، وأهان الكرامةَ الإنسانية، فكان بذلك مَثَل السَّوْءِ لمن جاء بَعْده واقتفى أثره من فراعين العصر الذين لا يَعْتَبرون من التاريخ، ولا يفْقَهون السُّنَنَ الربانية، ولا يتعظون بالهزائم المتوالية المصبُوبة على رؤوسهم في كُلِّ مَكَانٍ تَعْلو فيه كلمةُ الله تعالى بين المؤمنين الصادقين.
وهل هناك أدَلُّ على الفشل المُريع:
ـ من إِفْلاسِ التيارات الدنيوية بكل مشاربها وألوانها وتوجُّهاتها في العالم الإسلامي الذي رفَضَها على أساسِ أنها ليستْ المنهجَ الحياتيَّ الذي يحقق الاستقرار النفسيَّ والأسريَّ والاجتماعيَّ والسياسيَّ، كما أراَدَ و رَمَى إلى ذلك مُؤسِّسُو التيَّار العلماني المتمرِّد على منهج الله تعالى في كل شأن من شؤون الحياة.
فمؤسِّسُو هذا التيَّار ومُسْتَوْرِدُوه ومُسَوِّقوه أسنَدُوه بالحديد والنار، وأسندوه بالسجون والمعتقلات ونَصْب المشانق وتشريع الاغتيالات، وأسندوه بالمُغريات والتحريفات لمبادئ الدين الإسلامي وتشويه سلوك الداعين له والدَّاعيات، وأسْندوه بالدساتير ا لمرقَّعة التي تُعَدَّلُ بين الحين والآخر لتمديد فترة الحكم مدَى الحياة -عن طريق التحايُل المفضوح-، أو توْرِيثه للأبناء المتسلطين المسيطرين، وأسندوه بتزوير الانتخابات، وفَرْض قوانين الإرهاب والطوارئ، وحرْمان المسلمين من تأسيس الأحزاب على أساس التميّز بالدّعوة للإسلام، والترشح باسم الإسلام… ومَعَ ذلك لم يزيدُو الناسَ إلا حُبّاً للدين الحق، وتَعَلُّقاً بصَفَاءِ مبادئه ومناهجه.
فشِلوا لأنهم أرَادُوا أن يَجْعَلوا العلمانية ديناً جديداً يَحُلُّ مَحَلَّ الإسلام، ويجعلوا أرباب العلمانية هُمْ المعْبُودِينَ مَكَان ربِّ الإسلام، وربِّ المسلمين، وربِّ الناس أجمعين، فمسَخَهم الله تعالى وأخْزاهم، حيْثُ شُيِّعُوا إلى قبورهم مَقْبُوحين مَلْعُونين، أو بَقُوا في سجلات التاريخ لاَعقين لجراح الهزائم الفكرية والسياسية والحربيَّة ترجُمهم الأجيال تلو الأجيال. وكيف لا يُرْجَم من عَمِلَ على توزيع الأمة أسلاباً وغنائم بَيْن الشرق والغرب والشمال والجنوب؟! وكيف لا يُرجم من عَمِل على استِبْدال الكتاب الأسْوَد أو الأبيض أو الأخضر بالكتاب الأمْجدِ كتاب الله العظيم؟!
ـ من إفلاسِ الهجمات الاستعمارية الجديدة التي أدْخَلَتْ العالمَ كُلَّهُ في حَرْبِ مع الإسلام بصفته إرهابياًّ أحْيَاناً، وفاشياً أحياناً، ونازياً أحياناً، ومتطرفاً أحياناً، وديكتاتورياً أحياناً، وبَرْبريّاً أحياناً… إلى غير ذلك من التَّبريرات المُفْلسة التي ينتحِلُها المُفْلسون لتخريب العالم من جديد كما خَرَّبوه في الحربَيْن العالميَتَيْن في القرن الماضي.
ألَيْسَ غريباً أن يَنْعق ناعِقٌ من جنرالات الحرب المشْنُونة على الإسلام والمسلمين، فيُخوِّف العالم من الحَرْب العالمية الثالثة إذا لم يقضُوا على الإسلام المتشدِّد؟!
أليست صيحَةُ هذا الجنرال البئيس صَيْحةَ بُؤس وخَيْبَةٍ وفشل؟! أين سيقْضي على الإسلام وقد دخلَ نورُه بيوتَات دولته، وبيوتاتِ كل الدُّول الحاقدة على الإسلام والمسلمين؟! إن الإسلام نور منتشرٌ في الكون كله كالشمس التي يغمُر ضياؤها العالمَ كُلَّه، تغرُب هنا وتشرق هناك، فمن يستطيع القضاء على الشمس؟! بَلْ من يستطيع القضاء على النور الذي منه تستمد الشموس والأقمار والنجوم والكواكب ضياءَها؟!
كانت دعوة نبي الله تعالى موسى عليه السلام إلى قومه تتلخص فيما قال الله تعالى {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أمِينٌ وَأَنْ لا َ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} (الدخان: 18).
وكانت رسالة سليمان عليه السلام إلى بلقيس {يَاأيُّها المَلأُ إِنِّيَ أُلْقِيَ إليّ كتابٌ كرِيمٌ إنَّهُ مِن سُلَيْمان وإنّه بِسم اللّه الرحمَان الرّحيم أنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ واتُونِي مُسْلِمِين} (النمل: 31).
لماذا كان الرُّسلُ يدعون قومهم إلى الاستجابة لله تعالى وعَدَمِ العُلُوِّ على عبادته وشرعه؟!
1) لأن الله تعالى هو الأعلى، ولا يجوز التسبيح لغير الأعلى {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الأعْلَى} (الأعلى: 1).
2) لأن الحق الخالص المُصَفَّى لا يَصْدُر إلا من عند الله الأعلى {حَتَّى إذَا فُزِّع عنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: ماذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وهُو العَلِيُّ الكَبِيرُ} (سبإ: 23).
3) لأن المُلك كله لله تعالى، ومن يمْلك هو الذي يستحق أن يحكُمَ ما يَمْلِك، ويُشرِّعُ له ما يصونُه من العبث والفساد {وإِنْ يُشْرَكْ بِه تُومِنُوا فالحُكْمُ للِّهِ العَلِيِّ الكَبِير} (غافر: 12). وكَلمة المالك في ملكه ينبغي أن تكون هي العليا {وجَعَل كلمة الذِين كَفَرُوا السُّفْلى وكلِمَةُ الله هِي العُلْيا واللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(التوبة : 40).
4) لأن عَدَم التكبُّر على الله تعالى وعدم العُلُوِّ على شرعه هما ضمان صلاح الكون والإنسان {تِلْكَ الدّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا للذِينَ لا يُرِيدُون عُلُوّاً في الأرْضِ ولا فَسَاداً والعَاقِبةُ للمُتَّقِين} (القصص: 38).
5) لأن اتِّباعَ الحق النازل من عند العلي الأعْلَى هو الذي يضمن النصر في الدنيا على الأهواء والأعداء، ويضمن الفوز في الآخرة {ولاَ تَهِنُوا ولا تحْزَنُوا وأنْتُم الأعْلَوْنَ إن كُنْتُم مومِنين} (آل عمران: 139)، {ومَنْ يَاتِه مُومِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحَاتِ فَأُولَئِك لَهُم الدّرَجَاتُ العُلَى} (طه: 74).
أما اتِّباعُ الهوى ومجاراةُ السفهاء أهْل الأهواء فيقود إلى:
1) فساد الكَوْن وإفساد ساكنيه وأجوائه ومحيطاته {ولَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ والأرْضُ ومَنْ فِيهِنَّ} (المومنون: 72).
2) فقدان الأمن والسكينة والطمأنينة والسلام {الذِين آمَنُوا ولمْ يَلْبِسُوا إيِمَانَهُمْ بظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وهُمْ مُهْتَدُون} (الأنعام: 83).
3) فقدان العَدْل الشامل، لأن العَدْل لا يتحَقَّقُ إلا في دائرة الإيمان بالله تعالى والخوف من حسابه يوم اللقاء {فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا} (النساء: 134).
4) فقدان المحبة الإلهية التي يتنزَّلُ معها كُلُّ خَيْر وتبْريك، ومَنْ فقد المحبة الإلهية فَقَد كُلَّ خَيْر وأصْبح في مَهَبِّ رياح الشر تَنْقُله خطاه من خسارة إلى خسارة، ومن نكَدٍ إلى أنكَدَ، ومن خبيث إلى أخبث، لأن الإنسان الشرير الخبيث مُطارَدٌ دائِماً باللّعنات من كل جانب، من السماء والأرض، ومن الناس والملائكة، ومن الحيوان والنبات وكل الموجودات، لأن الخبيثَ يُلاحِقُه خُبْثه أينما اتجه {فَمَنْ كَفَر فعَلَيْهِ كُفْرُهُ ولاَ يَزِيدُ الكَافِرِين كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إلاَّ مَقْتاً ولاَ يَزِيدُ الكَافِرِين كُفْرُهُم إلاَّ خَسَاراً} (فاطر: 39)، {ومَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكُ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الذِينَ لمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُم لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ولَهُمْ في الآخِرَة عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 43) فهل تستطيع الشعوبُ الإسلامية التوحُّدَ على منهج الله تعالى لِوَضْع القاطِرة العالمية والمحليّة على صراط العدالة الربانية التي تزِن بالقسطاس المستقيم؟!
ذ.المفضل فلواتي