1- الـتـعـريـف :
يراد بالتكوين الذاتي أن يقوم الفرد الإنساني بتنمية نفسه بنفسه وفق قدراته أولا، ووفق متطلبات عصره وحاجات مجتمعه ثانيا، ووفق منهج محدد المحتوى والمراحل والوسائل والأهداف ثالثا؛ بغية تحقيق كماله الذاتي انطلاقا مما أودع فيه الباري سبحانه من مؤهلات وطاقات يكفي المرء حسن استثمارها ورعايتها وتربيتها حتى تؤتي ثمراتها كل حين بإذن ربها.
وإذا تبين أن التكوين الذاتي هو جهد إضافي ومتواصل ومحكم البناء وهو أيضا جهد مضن فقد يتساءل البعض لماذا الحديث عن التنمية الذاتية مع العلم أن النمو يتم بشكل تلقائي ولو لم يتدخل فيه الفرد ؟
2- الأهمية والضـرورة :
تأتي الحاجة إلى التنمية الذاتية في تقديرنا إلى :
أ- كونها تناسب الطبيعة البشرية؛ فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا ينمو نموا طبيعيا فحسب وإنما نموا إراديا أيضا؛ لأن النمو الطبيعي يتساوى فيه مع بقية الكائنات الحية، أما النمو الإرادي فهو خاص به لأن الله زوده بهذه القدرة بعد أن منحه العقل والحرية والإرادة وهذا هو مناط التكليف. إذن فالتنمية الذاتية وبشكل إرادي مطلب طبيعي وإنساني يناسب الفطرة الإنسانية في بعدها الفردي والاجتماعي ويستجيب لمقاصد الله من خلقه للإنسان وتكليفه بعمارة الكون على أساس العبودية لله جل وعلا والاجتماع الإنساني القائم على الاجتهاد المتفاني في تحصيل المصالح وجلب المنافع ودرء الشرور ودفع المفاسد .
ب- كونها شرطا في الوجود الإنساني أولا وفي الاندماج الاجتماعي ثانيا؛ فبالنسبة للأول فالكائن الحي الذي يتوقف عن النمو يعد من الأموات، وكذلك بالنسبة للفرد الذي لا ينمي ذاته ولا يطور قدراته يؤول حتما إلى الموت وإن كان حيا؛ أما بالنسبة للثاني فإن التكوين الذاتي للفرد داخل مجتمع معين يؤهله للاندماج في هذا المجتمعاندماجا نافعا ومحسوبا بدقة، أما الفرد الذي لا ينمي قدراته الذاتية بما يستجيب لمتطلبات الحياة الاجتماعية فيصعب عليه التكيف مع محيطه الاجتماعي، كما أن مجتمعه يحرم من القدرات الكامنة فيه التي لو استثمرت جيدا لأفادت كثيرا، ولما كانت الأوساط الاجتماعية تختلف حاجاتها بحسب درجة نموها وتطورها الحضاري كان لزاما على الفرد الاجتماعي أن ينمي ذاته بحسب الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه ليتمكن من تغطية خصاص مجتمعه وأداء الأدوار المطلوبة منه اجتماعيا أداء المحسنين والمتقنين.
ج- كونها مطلبا شرعيا : إذ أوجب الشرع على المكلف مجاهدة نفسه وتعويدها على التكاليف والتدرج في ذلك من الأصغر إلى الأكبر ومن الأبسط إلى الأعقد كما حث القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة على اكتساب أسبا ب القوة للفرد والجماعة أيا كانت هذه القوة مادية أم معنوية، وكرها الكسل والخمول ورغبا في العمل والجد والاجتهاد، من هذا كان لزاما على المسلم أن يجتهد غاية وسعه في أن يكون الأقوى في كل شيء فذلك هو المطلوب.
د- تعقد المجتمع المعاصر وتعدد حاجياته ونزوعه نحو التخصص الدقيق وتركيزه على تشجيع المبادرات الفردية الحرة : وهذه المسألة غاية في الأهمية لذا وجب التنبه لها بنفس القدر الذي يجب التنبه للعناصر السابقة ذلك أن الفرد يوشك أن يفقد قيمته ويخسر وضعه الاجتماعي إن هو لم يكن مبادرا ومشاركا بجد وفعالية، وما لم يكن واعيا بتعقد الحياة المعاصرة وتعدد المنافسين الأقوياء فيها، لذلك فالقوي نفسه قد لا يجد مكانه مع الأقوياء فكيف بالضعفاء؟! لذا يلزم تكثيف الاستعداد لهذا العصر بالتكوين الذاتي والمبادرة الحرة والهادفة المبنية على تأهيل الذات واستثمار طاقاتها في كل ميدان يمكن أن تعطي فيه بنجاح.
وكل فرد أهمل أو تغافل عن تنمية ذاته تنمية ذاتية إرادية قاصدة لن يكون مرشحا للمنافسة والتنافسبل لن يكون قادرا على كسب أبسط شروط العيش ومقوماته خاصة أن المجتمع المعاصر مجتمع معقد البنى ومتعدد التخصصات ومحكم التنظيم ومبني على الانفتاح على الكفاءات المؤهلة تأهيلا مشروطا بشروط علمية و مهارية وأخلاقية.
3- الشــروطـ :
ليس كل تأهيل للذات هو تأهيل معتبر ومقبول حتى تتحقق فيه مجموعة من الشروط والضوابط التي من جملتها :
أ- مراعاة الحكم الشرعي : لأنه لا يحل لامرئ مسلم أن يقدم على تكوين ذاته في ما هو حرام أو مكروه بل عليه أن يتحرى حكم الله في كل عمل يسعى من خلاله إلى تحقيق تنمية ذاته ومجتمعه والإنسانية جمعاء. ب- التخطيط المحكم والمنظم للتكوين الذاتي تنظيما يستجيب لمجموعة من الشروط منها :
< أن يكون شاملا لجميع مكونات الذات الإنسانية (عقل، روح، بدن)، وفي مختلف أبعادها وعلاقاتها الاجتماعية والزمانية والمكانية. وبشكل متوازن ومتعادل قدر الإمكان.
< أن يكون مبنيا على حصر الإمكانات المتوفرة ورصد الحاجيات والخصاصات والنواقص على المستوى الفردي والاجتماعي، وترتيبها وفق الأولويات لأن ذلك يحقق الضبط والقصد للعمل على تكوينها أولا بأول.
< أن يكون محدد الأهداف والمراحل والمحتوى والأدوات والوسائل والمدة ومعايير التقويم، كما ينبغي أن يكون متكاملا ومرنا، و قابلا للإنجاز، ومستمرا غير منقطع، ومتصلا غير منفصل.
ب- الرغبة والطموح : فلا يتحقق الفرد من تنمية ذاته ما لم يكن لديه رغبة وطموح وهمة عالية، وما لم يتعزز ذلك بالحرص والالتزام بما ألزم نفسه به من تكاليف، ومحاسبة النفس على التقصير أو التهاون ثم التعهد باستدراك ما لم ينجز بالمرة أو لم ينجز على صورته المطلوبة. وليؤمن الفرد أن كل شيء ممكن التحقق إذا توفرت شروطه فيكفي الدأب في العمل والصبر عليه، كما أن على الفرد أن يؤمن بأنه ليس هناك ما هو صعب وإنما هناك المستصعَب الذي تستصعبه الذات أحيانا- إيثارا منها للراحة – وليس صعبا في ذاته أوبتعبير المناطقة والحكماء فالصعب نسبي وإضافي. وإذا كان ذلك كذلك وجب التسلح بالرغبة القوية والهمة العالية حين الإقدام والاقتحام والثقة في النفس ثقة محسوبة حتى لا يتحول السلوك إلى تهور.
ومما يعين على تكوين هذه الهمة المثمرة تحري الحق والشعور بالفخر والاعتزاز بأن يكون الإنسان بجانب الحق فتقوى لديه العزيمة للعمل به ومجاهدة النفس على التخلق به، كما يتعين عليه النظر في سير العظماء والأبطال والناجحين في التاريخ الإنساني في كل الميادين إذ يجد الناظر في سيرهم وأحوالهم أنهم انطلقوا من أضعف الإمكانات التي كانوا يتوفرون عليها لكنهم استثمروها الاستثمار اللازم حتى صاروا عظماء فوق الخيال وما هم إلا “رجال أعمال” وأصحاب همم عاليات.
ج- مراعاة الحاجيات الاجتماعية : إذ لا تنفع تنمية للذات التي لا يحتاجها المجتمع، لذا وجب رصد حاجيات المجتمع وترتيبها وفق سلم الأولويات وتوجيه التكوين فيها وإليها حتى لا تضيع الجهود.
د- الاستعانة بالله عز وجل: فهو خير معين وأحسن وكيل {وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا}، لكن إياك أيها اللبيب أن تغتر بالدعاء وتفرط في الأسباب المادية الموكول إليك إتيانها، وإياك أن تغتر أيضا بأعمالك وما آتيت من أسباب وتنسى التوكل على خالق الأسباب، فعليك أن تأخذ بالأسباب وعلى الله النتائج. فلا يقع شيء في ملكه إلا بإذنه ووفق سننه.
وفي الختام يمكن القول إن القصد من هذه السلسلة التربوية التبصير بالضروري في التكوين الذاتي وفي كيفية تنمية المؤهلات الفردية حتى يكون المسلم قويا كما أراد الله. لذلك سينصرف الاهتمام في الحلقات المقبلة إلى الجوانب التي تحتاج إلى هذه التنمية والتزكية وسبل تحقيق ذلك.