قال ابن اسحاق : وأنزل الله تعالى عليه فيما سأله قومُه لأنفسهم من :
1) تَسْيير الجبال، وتَقْطِيع الأرض، وبَعْث منْ مَضَى من آبائهم من الموتى : {ولَوْ أن قُرآنا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبال، أو قُطِّعَتْ بِهِ الأرضُ، أو كُلِّمَ بهِ الموتَى بَلْ للهِ الأمْرُ جميعاً}(الرعد : 32) : أي لا أصنع من ذلك إلا ما شئت.
2) بعث الملائكة معه للتصديق : وأُنزل عليه في قولهم : خُذْ لنفسك، ما سألوه أن يأخذ لنفسه، أن يجعل له جِنانا وقُصوراً وكُنوزاً، ويبعث معه ملَكا يصدِّقه بما يقول، ويردّ عنه : {وقالُوا مالِ هَذَا الرَّسُولِ يأكُلُ الطَّعَامَ، ويمْشِي في الأسْوَاقِ لَوْلاَ أنْزِلَ إليْهِ مَلَكٌ فيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أوْ يُلْقَى إليْهِ كَنْزٌ، أو تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يأْكُلُ مِنْهَا، وَقَال الظَّالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً انْظُرْ كيفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً، تَبَارَكَ الَّذِي إنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلكَ} : أي من أن تمشي في الأسواق وتلتمس المَعاش {جَنَّاتٍ تَجْرِي منْ تَحْتِها الأنهار ويَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً}(الفرقان : 10).
3) المشي في الأسواق وأكل الطعام : وأنزل عليه في ذلك -أيضا- من قولهم -مبيناً سنته في الرسل جميعا- : {ومَا أرْسلنَا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِين إلاَّ إنَّهُمْ ليأكُلُونَ الطَّعَامَ، ويَمْشُون في الأسواق، وجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً، أتَصْبِرُونَ وكان رَبُّكَ بَصِيراً}(الفرقان : 20) : أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتَصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رُسلي فلا يُخالَفوا لفعلت.
4) تفجير الينابيع : وأنزل الله عليه فيما قال عبد الله بن أبي أُمية : {وقَالُوا لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حتى تفجِّرَ لنا في الأرْضِ يَنْبُوعاً(1). أو تكُونَ لَكَ جَنَّةٌ منْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فتُفَجِّرَ الأنهار خِلاَلَها تَفْجِيراً. أوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كما زعَمْتَ عَليْنَا كسَفا، أوْ تأْتي بالله والملائكةِ قَبِيلاً. أوْ يَكُونَ لَك بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أو تَرْقَى في السَّماءِ، ولَنْ نُؤْمنَ لرُقيِّك حتى تُنْزِلَ علَيْنَا كِتاباً نَقْرؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِي هَلْ كُنْتُ إلاَّ بَشَراً رَسُولاً}(الإسراء : 93).
5) تعليم البشر له : وأنزِل عليه في قولهم : إنَّا قد بَلَغَنَآ أنك إنما يُعلِّمُك رجل باليمامة، يقال له الرحمن(2)، ولن نؤمن به أبداً : {كذلك أرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أمَمٌ لتَتْلُو عَلَيْهِمْ الَّذِي أوْحَيْنَا إليْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرَّحْمَنِ، قُلْ هُوَ رَبِي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ عَلَيْهِ توَكَّلْتُ وإليْهِ مَتاب}(الرعد : 31).
6) تهديد أبي جهل له : وأنزل عليه فيما قال أبو جَهْل بن هشام، وما هَمَّ به : {أرَأيْتَ الذِي ينْهَى عَبْداً إذَا صَلى، أرَأيْتَ إنْ كَانَ عَلَى الهُدَى أوْ أمَرَ بالتَّقْوَى، أرأيْتَ إنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، ألَمْ يَعْلَمْ بأنَّ اللَّهَ يَرَى، كلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعن(3) بالنَّاصِية، ناصيَة كَاذِبَةٍ خاطِئَة، فَلْيَدْعُ نادِيَهُ، سنَدْعُ الزَّبانِيةَ، كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ واسْجُدْ واقْتَرِبْ}(العلق : 10- 20).
7) التواصي بعدم الاستماع للقرآن : فلما جاءهم رسول الله بما عرَفوا من الحقّ، وعرَفوا صِدْقه فيما حدّث، وموْقع نُبوته فيما جاءهم به من علم الغُيوب حين سألوه عمَّا سألوا عنه، حال الحسدُ منهم له بينهم وبين اتِّباعه وتَصْديقه، فعَتَوْا على الله وتركوا أمره عياناً، ولجُّوا فيما هم عليه من الكُفر، فقال قائلهم : {لا تَسْمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه لعلكم تَغْلبون}(فصلت : 25)، أي اجعلوه لغواً وباطلا، واتخذوه هُزواً لعلَّكم تغْلبونه بذلك، فإنكم إن ناظرتموه أو خاصَمتموه يوما غلَبكم.
8) الاستخفاف بقوة الله تعالى وملائكته ووحيه لصرف الناس عن التأثر بالقرآن :
قال أبو جهل يوما -وهو يهزأ برسول الله وما جاء به من الحق- : يامشعر قريش، يزعمُ محمدٌ أن جنود الله الذين يعذِّبونكم في النَّار ويحْبسونكم فيها تسعة عشرَ، وأنتم أكثر الناس عدداً وكثْرَةً، أفيعجِزُ كلُّ مئة رجل منكم عن رجل منهم؟ فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من قوله : {ومَا جَعَلْنَآ أصحاب النَّارِ إلاَّ ملائكَةً، ومَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلاَّ فِتْنَةً للَّذِينَ كَفَرُوا}(المدثر :31) إلى آخر القصة(4)، فلما قال ذلك بعضهم لبعض، جعلوا إذا جهر رسولُ الله بالقرآن وهو يصلي، يتفرَّقون عنه، ويأبون أن يسْتمعوا له، فكان الرجلُ منهم إذا أراد أن يسْتمع من رسولِ الله بعض ما يتلو من القرآن وهو يُصلي، استرق السمع دونهم فَرَقًا(5) منهم، فان رأى أنهم قد عرَفوا أنه يستمع منه ذهب خشْية أذاهم فلم يستمع، وإن خَفَض رسول الله صوتَه، فظن الذي يستمع أنهم لا يستمعون شيئا من قراءته، وسمع هو شيئا دونهم أصاخ له يستمع منه.فنزل قول الله تعالى -تشجيعا للمترددين الخائفين- {ولاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولاتُخافِتْ بها، وابْتَغِ بين ذلك سبِيلاً}(الإسراء : 109) من أجل أولئك النَّفر. يقول : لا تجهر بصلاتك فيتفرّقوا عنك، ولا تُخافت بها فلا يسْمعها من يُحب أن يسمعها ممن يسْترق ذلك دونهم لعلَّه يرْعَوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به.
قصة استماع قريش إلى قراءة النبي
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن مُسلم بن شهاب الزَّهْرِيّ أنه حُدِّث : أن أبا سفيان بن حَرْب، وأبا جهل بن شهام، والأخنس بن شُرَيق، خرجوا ليلةً ليستمعوا من رسول الله ، وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستعمون له، حتى إذا طلع الفجرُ تفرَّقوا. فجمعهم الطريقُ، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض : لا تَعودُوا فلو رآكم بعضُ سُفهائكم لأوْقعتم في نفسهم شيئا، ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت اللية الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجرُ تفرقوا، فجمعهم الطريقُ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أوّل مرة، ثم انصرفوا.
حتى الليلة الثالثة أخذ كُلُّ رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجرُ تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض : لا نبرحُ حتى نتعاهد ألا نعود: فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا.
ذهاب الأخنس إلى أبي سفيان يسأله عن معنى ما سمع:
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال أخْبرني يا أبا حَنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعْرفها وأعرف ما يُراد بها، وسمعتُ أشياء ما عرفتُ معناها، ولا ما يراد بها؛ قال الأخنس : وأنا الذي حلفتَ به كذلك.
ذهاب الأخنس إلى أبي جهل يسأله عن معنى ما سمع :
قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهْل، فدخل عليه بيته، فقال : يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعتَ من محمَّد؟ فقال : ماذا سمعتُ، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرفَ، أطعَموا فأطْعمنا، وحَملوا فَحَمَلْنا، وأَعْطَوْا فأعْطَينا، حتى إذا تجاثيْنا(6) على الركب وكنا كفرسَيْ رهان، قالوا : منَّا نبي يأتيه الوحي من السماء؛ فمتى نُدْرك مثل هذه، والله لا نُؤْمن به أبداً ولا نصدّقه. فقام عنه الأخنس وتركه.
9) تعنُّت قريش في عدم استماعهم للرسول ، ومـــا أنزله تعالى :
قال ابن إسحاق : وكان رسولُ الله إذا تلا عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله، قالوا يهزءونبه : قلُوبنا في أكنَّة مما تدعونا إليه لانفقه ما تقول وفي آذاننا وقْر لا نسمع ما تقول ومن بيننا وبينك حجابٌ قد حال بيننا وبينك فاعمل بما أنت عليه إننا عاملون بما نحن عليه -من سورة فصلت-، إنَّا لا نفقه عنك شيئا.
فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من قولهم : {وإِذَا قرأْتَ القُرْآن جَعَلْنَا بينَكَ وبينَ الَّذِينَ لا يؤْمنُونَ بالآخرَةِ حِجَاباً مسْتُوراً وجَعَلْنا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أن يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِم وقراً، وإذا ذكَرْتَ رَبَّكَ في القرآن وحدَهُ وَلَّوْا عَلى أدْبَارهم نُفُوراً}(سورة الإسراء) : أي كيف فهِمُوا توحيدَك ربَّك إن كنتُ جعلتُ على قلوبهم أكِنَّةً، وفي آذانهم وقراً، وبينك وبينهم حجابا بزعمهم، أي إني لم أفعل ذلك. {نحن أعْلَمُ بما يسْتَمِعُونَ بِهِ، إذْ يستَمِعُونَ إليْكَ، وَإذْ هُمْ نجْوَى، إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إلاَّ رَجُلاً مسْحُوراً}(الإسراء : 47).
أي ذلك ماتواصوْا به من ترك ما بعثتُك به إليهم.{انظُر كيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثال فَضَلُّوا فلا يستَطِيعُونَ سبيلا}(سورة الإسراء) أي أخطأوا المثل الذي ضَرَبُوا لك، فلا يُصيبون به هُدىً، ولايعْتدل لهم فيه قول.
{وَقَالُوا أإذَا كُنَّا عِظَاما ورُفاتا أئنَّا لمَبعوثُونَ خَلْقا جَدِيداً}(سورة الإسراء) : أي قد جِئْتَ تُخْبرنا أنَّا سنُبعث بعد موتنا إذا كنَّا عِظاما ورُفاتا، وذلك ما لا يكون.
{قُلْ كُونُوا حِجارَةً أوْ حَدِيداً، أوْ خَلْقا مِمَّا يَكْبُرُ في صُدُورِكُمْ فَسَيَقولونَ منْ يُعِيدُنا، قُلِ الَّذِي فطَرَكم ْ أول مَـرَةٍ}(الإسراء : 51) : أي الذي خلقكم مما تعرفون، فليس خَلْقُكُمْ من تراب بأعزَّ من ذلك عليه.
قال ابن إسحاق بسنده : عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما عندما سُئل عن قول الله تعالى : {أوْ خَلْقا مِمَّا يَكْبُرُ في صُدُورِكم} ما الذي أراد اللَّهُ به؟ فقال : الموت.
ذ. المفضل فلواتي
——–
1- ينبوعا : ما نبع من الماء في الأرض وغيرها.
2- وجاء في سورة النحل 103{ولقد نَعْلَمُ أنَّهُمْ يقُولُون إنّما يُعَلِّمُهُ بَشُرٌ لِسان الذِي يُلْحِدون إِلَيْه أعْجَمِيٌّ وهذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}.
3- لنجذبنّ ولنأخذنّ.
4- وخصوصا قول الله تعالى {ما لَهُم عن التّذكرةِ مُعْرضين كأنّهُم حُمُرٌ مُسْتَنْفرة فرّت من قَسْورة} شبّههم الله تعالى بإعراضهم عن القرآن بالحمر الوحشية التي تشتدُّ في الفرار حينما ترى الصيادين.
5- فرقا منهم : خوفاً من كبار قريش أن يعيروه أو يؤذوه.
6- تجاثينا : أصبحنا متساويين.