7- ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة
قال ابن إسحاق : ثم إنهم عَدَوْا على منْ أسْلم، واتَّبع رسولَ الله من أصحابه، فوثبتْ كلُّ قبيلةٍ على مَنْ فيها من المُسْلمين، فجعلوا يَحْبِسونهم ويعذّبونهم بالضرب والجوع والعَطش، وبرَمْضاء مكة إذا اشتدّ الحرّ، من استضعفوا منهم، يَفْتنونهم عن دينهم، فمنهم من يُفْتن من شدة البلاء الذي يُصيبه، ومنهم من يَصْلبُ لهم، ويَعْصمه الله منهم.
صمود بلال رضي الله عنه
وكان بلال، مولى أبي بكر رضي الله عنهما، وهو بلال بن رباح، وكان اسمُ أمِّه حَمامة، وكان أُمية بن خَلَف يُخرِجه إذا حميت الظَّهيرةُ، فيَطْرحه على ظهره في بَطْحاء مكة، ثم يأمر بالصَّخرة العظيمة فتوضع علي صدره، ثم يقول له : لاوالله لاتزال هكذاحتي تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى؛ فيقول وهو في ذلك البلاء : أحدٌ أحدٌ، حتى مرّ به أبو بكْر الصديق ] يوما، وهم يصْنعون ذلك به، فقال لأمية بن خَلف : ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟ قال : أنت الذي أفسدته فأنْقِذْه مما ترى؛ فقال أبو بكر : أفعلُ، عندي غلام أسود أجْلد منه وأقوى، على دينك، أعْطيكه به؛ قال : قد قبلتُ فقال : هو لك. فأعطاه أبو بكر الصديقُ رضي الله عنه غلامه ذلك، وأخذه فأعتقه.
من أعتقهم أبو بكر مع بلال :
ثم أعْتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر الى المدينة ستَّ رقاب، بلال سابعُهم وهم : عامر بن فهيرة(1)؛ وأمَّ عُبيس، وزِنِّيرة(2).
وأعتق النَّهدية وبنتها وكانتا لامرأة من بني عبد الدار، فمرّ بهما وقد بعثتهما سيدتُهما بطحين لها، وهي تقول : والله لا أُعتقكما أبداً، فقال أبو بكر رضي الله عنه : حِل(3) يا أمّ فلان؛ فقالت حِلّ، أنت أفسدتهما فأعْتِقهما؛ قال : فبكم هما؟ قالت : بكذا وكذا؛ قال : قد أخذتُهما وهما حُرّتان، أَرْجِعا إليها طحينها، قالتا أوَ نَفْرُغْ(4) منه ياأبا بكر ثم نردّه إليها؟ قال : وذلك إن شئتما.
ومرّ بجارية بني مؤَمَّل، حيّ من بني عديّ بن كعب؛ وكانت مُسلمةً، وعمر بن الخطاب يُعذبها لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك وهو يضربها، حتى إذا ملَّ قال : إني أعتذر إليك، إني لم أتركْك إلاملالةً؛ فتقول : كذلك فَعل الله بك. فابتاعها أبو بكر، فأعتقها.
أبو قحافة يلوم ابنه أبا بكر على عتقه المستضعفين :
قال أبو قحافة لأبي بكر : يا بنيّ، إني أراك تُعْتِق رِقاباً ضعافاً، فلو أنك إذ فعلت مافعلتَ أعتقتَ رجالا جُلْداً -أقوياء- يمنعونك ويقومون دونك؟ قال : فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا أبت، إني إنما أريد ما أُريد، لله عز وجل.
قال : فيُتحدّث أنه ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه، وفيما قال له أبوه : {فأمَّا مَنْ أعْطَى واتَّقَى وصَدَّقَ بالحُسْنَى فسنيسره لليسرى} وقوله تعالى : {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إلاَّ ابتِغَاءَ وجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى ولَسَوْفَ يَرْضى}(الليل : 21).
ما وقـع لآل ياسر وتصبير رســول الله لهم :
قال ابن إسحاق : وكانت بنو مَخْزُوم يخْرجون بعمَّار(5) بن ياسر، وبأبيه وأمه وكانوا أهل بيت إسلام، إذا حَميتِ الظهيرةُ، يُعذِّبونهم برمْضاء مكة، فيمر بهم رسول الله فيقول فيما بلغني : صبراً آل ياسر، موعدُكم الجنة. فأمَّا أمُّه فقتلوها(6)، وهي تأبى إلا الإسلام.
ما كان يعذِّب به أبو جهل من أسلم :
وكان أبو جهل الفاسق إذا سمع بالرجل قد أسلم، له شرَف ومَنَعه، أنَّبه وأخزاه وقال : تركت دين أبيك وهو خيرٌ منك لنُسفِّهَنَ حِلْمَك ولنُفَيِّلَن(7) رأيك ولنضعَنَّ شرفك؛ وإن كان تاجراً قال : والله لنُكَسِّدن تجارتك، ولنُهلكن مالك؛ وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به.
شدة الآلام والفتن النازلة بالصَّحْب الكرام
قال ابن إسحاق : وحدثني حكيم بن جُبير عن سَعيد بن جُبير، قال : قلت لعبد الله بن عبَّاس : أكان المشركون يبْلغون من أصحاب رسول الله من العذاب ما يُعذَرون به في تَرْك دينهم؟ قال : نعم والله، إن كانوا ليَضْربون أحدَهم ويُجيعونه ويُعطِّشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شَّدة الضُّر الذي نزل به، حتى يُعطيهم ما سألوه من الفِتْنة، حتى يقولوا له؛ أللات والعزَّى إلهُك من دون الله؟ فيقول: نعم، حتى إِنَّ الجُعل(8) ليمرّ بهم، فيقولون له : أهذا الجعل إلهُك من دون الله؟ فيقول : نعم، افتداءً منهم ممَّا يبلغون من جَهْده.
العصبية العشائرية تحمي بعض المسلمين
قال ابن إسحاق بسنده : أن رجالا من بني مخزوم مَشَوْا إلى هشام بن الوليد، حين أسلم أخوه الوليد بن الوليد بن المُغيرة، وكانوا قد أجمعوا على أن يأخذوا فتيةً منهم كانوا قد أسلَموا، منهم: سلمة ابن هشام وعيَّاش بن أبي ربيعة. فقالوا له -وخَشُوا شرهم- : إنا قد أردنا أن نعاتب هؤلاء الفتْية على هذا الدين الذي أحدثوا، فإنَّا نأمن بذلك في غيرهم. قال : فعليكم به فعاتبوه وإياكم ونفسَه.
احذروا على نفسه، فأقسم بالله لئن قتلتموه لأقتلنَّ أشرفكم رجلاً. فقالوا : اللهمَّ الْعَنْهُ، من يُغرّر بهذا الحديث(9)، فوالله لو أصيب في أيدينا لقُتل أشرفنا رجلا، فتركوه ونَزَعوا عنه. وكان ذلك مما دفع الله به عنهم.
ذ. المفضل فلواتي
———–
1- شهِدَ بدراً وأحُداً، وقُتِل يوم بئر معونة شهيداً
2- أصيب بصُرها حين أعتقها، فقالت قــُريش : ما أذهب بصرها إلا اللات والعزَّى؛ فقالت : كذَبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزَّى وما تنفعان، فرد الله بصرها.
3- حِل : يريد : تحلَّلِي من يمينك، واستَثْنِي أي قولي : إن شاء الله.
4- نفرغ منه : ننتهي من غربلته وتهييئه، وهذا من أسمى الأخلاق الإسلامية.
5- روي أن عماراً قال لرسول الله لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ، فقال له : صبراً أبا اليقطان، ثم قال : اللهم لا تعذب أحدا من آل عمار بالنار.
6- اسمها سمية بنت خياط، طعنها أبو جهل بحربة في قُبُلها فماتت رحمها الله تعالى، وهي أول شهيدة في الإسلام.
7- لنفيّلن رأيك : لنقبّحنّه ولنخطِّئنّه، أي لنجعلن رأيك لا قيمة له.
8- الجُعَل : الخنفساء التي تجمع الرّوث والقاذورات.
9- أي حديث هشام بن الوليد الذي قال لهم : عليكم به فعاتبوه وإياكم ونفسه، إذْ مَن يَضْمَن لهم عَدَم موْتِه وفي رواية : من يغرَّرُ بهذا الخبيث، يصفونه بالخبث لما سيجرُّه عليهم من المصائب إن قتلوه، أما الخبيث حقا فهو من يؤذي البرآء.