الزاوية التي تنبثق عن خطين مستقيمين عمودي وأفقي هي التي يقال لها زاوية ذات 90 درجة، وهي التي أراها مآلا وعنوانا لكل نجاح دعوي، نجني منه التمكين في هذه الدار، والتمكين في الدار الآخرة : {مَنْ عَمِلَ صالحاً من ذكَرٍ أو أنْثَى وهُو مومِن فلنُحْيِيَنَّه حياةً طيّبةً ولنَجْزِيَنّهم أجْرهم بأحْسَن ما كَانُوا يعْملون}(النحل : 97)
وعدم الاستقامة على الخطين أو على أحدهما لمن أراد الآخرة دون الدنيا، أو الدنيا دون الآخرة، لا يحقق أية نتيجة تذكر في هذا المجال، فالآخرة تنال بالاستقامة، وكذلك الدنيا : {ورَهْبانِيّة ابْتدَعُوها ما كتبْناها عليهم إلاّ ابْتغَاءَ رِضْوانِ الله فما رعَوْها حَق رعَايَتها..}(الحديد : 27).
{مَن كان يُريدُ حرْث الآخِرة نزِدْ له في حرْثه}(الشورى : 20).
{من كان يُريدُ العاجِلة عجَّلنا له فيها ما نَشَاء لِمن نُريد ثم جَعَلْنا جهنَّم يصْلاها مذْمُوما مدْحُوراً، ومن أرَادَ الآخِرة وسَعَى لَها سعْيَها وهُو مُومِن فأُولَئِك كان سَعْيُهُم مشْكُوراً، كُلاًّ نُمدّ هؤُلاء وهؤلاَءِ من عطَاءِ ربَّك وما كان عطاءُ ربِّك محظُورا}(الإسراء : 18- 20).
ومادام أمرُ الآخرة مغيبةً نتائجه عنا، فإنه لا يمكننا الحكم على أي كان ممن يبدون أنهم على استقامة كبيرة في خطها العمودي بالفلاح أو بالخسران، وحديث صاحب الشملة الذي أخبر الرسول أنه في النار على الرغم من أنه مات شهيدا في ساح القتال غَنِيٌّ عن كل بيان.
إن الاستقامة على الخط العمودي الذي يعني العلاقة القوية بالله؛ كالصلاة، والصوم، والذكر، وما إلى ذلك من طاعات على الرغم من أهميتها ستصبح لا تساوي شيئا، بل تنقلب وبالا على صاحبها إذا تعمد إفساد الخط الموازي لها “الأفقي” الذي يعني العلاقة القوية بالمجتمع والناس بالإساءة إليهما بمختلف أنواع الإساءة والإيذاء.
يفسر ذلك جوابه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، عن سؤال حول امرأة تصوم النهار، وتقوم الليل، ولكنها تؤذي جيرانها، إذ قال : >إنها في النار<. نفهم من هذا أن الاستقامة عموديا مع تعمد إفساد الاستقامة الأفقية مع المجتمع يحوّل العلاقة بالله “عموديا” إلى عصيان، وينال صاحبها الخسران، أما الاستقامة أفقيا مع المجمع ولو صاحبتها علاقة سيئة بالله “عموديا” فستحقق لصاحبها التمكين في الدنيا التي لا تنال إلا بالأسباب، ويفسر ذلك قوله تعالى عن اليهود {مَلْعُونِين أيْنَما ثُقِفُوا} أي أن علاقتهم بالله مبتوتة، وأنهم مطرودون من رحمة الله تعالى {إلاّ بحَبْلٍ من اللّه وحَبْلٍ من النّاس} وحبل الناس هو العلاقة الأفقية الوطيدة مع المجتمعات التي مكنت لهم في فلسطين.
فالحبل الذي يربط اليهود بالله مقطوع منذ لعنهم، وجعل منهم القردة والخنازير، وقَبولُ الذين خلفوهم بتحريفهم لكلام الله، يديم هذه اللعنة عليهم إلى يوم الدين، أما الحبل الذي يربطهم بالناس {وحَبْلٍ من النّاس} فمتينة أواصره، لأنهم أحسنوا العلاقة بالمجتمعات التي كانوا فيها مع الحكومات ومع شعوبها سواء.
فالبروتوكول الأول من بروتوكولات حكماء صهيون يدعو إلى أن الحق يكمن في القوة، وأن هذه الأخيرة أي “القوة” تكمن في جذب العامة إلى صف إسرائيل، ولا يمكن جذب العامة إلى صفهم إلا إذا عرفوا كيف يضربون على وترها الحساس؟!
- ويقول البروتوكول : “لابد لطالب الحكم من الالتجاء إلى المكر والرياء، فإن الشمائل الإنسانية العظيمة من الإخلاص والأمانة تصير رذائل في السياسة، وأنها تبلغ في زعزعة العرش أعظم مما يبلغه ألد الخصوم.
هذه الصفات لابد أن تكون هي خصال البلاد الأممية “غير اليهودية” ولكننا غير مضطرين إلى أن نقتدي بهم على الدوام”.
يعني أن جذبهم للعامة يكون في إفساد أخلاق حكامها، وأنهم غير ملزمين بهذه الأخلاق الفاسدة التي يروجونها بين الأمم والشعوب.
- وفي البروتوكول الثاني يعملون على ألا يكون هناك تغيير جاد في الشعوب نحو الأحسن وبخاصة المسلمين : “وسنختار من بين العامة روساء إداريين ممن لهم ميول العبيد، ولن يكونوا مدربين على فن الحكم، ولذلك سيكون من اليسير أن يمسخوا قطع شطرنج ضمن لعبتنا في أيدي مستشارينا العلماء الحكماء الذين دربوا خصيصا على حكم العالم منذ الطفولة الباكرة”، وهؤلاء الذين يريدهم الصهاينة حكاما وقادة في السلطة والمعارضة هم الذين أشرت إليهم سابقا بأنهم من طراز {والأمر إليك فانظري ماذا تامرين}.
- البروتوكول الثالث يدعو إلى المؤامرات والدسائس : “فقد أقمنا ميادين تشتجر فوقها الحروب الحزبية بلا ضوابط ولا التزامات، وسرعان ما ستنطلق الفوضى وسيظهر الإفلاس في كل مكان”.
- البروتوكول الرابع إعداد مراحل لمرور الجمهوريات التي يريدون سقوطها بأيديهم، أولها ثورة العميان ثم حكم الغوغاء.
- البروتوكول الخامس أن تتفشى العداوة والبغضاء بين تلك الحكومات، وأن يكون طابعها الاستبداد.
- والبروتوكول السادس تنظيم الاحتكار والاستغلال.
- البروتوكول السابع تضخيم ميزانيات الجيوش بلا فائدة، وزيادة كثرة وقوة البوليس في هذه الحكومات.
- البروتوكول الثامن إفساد القوانين : بحيث تكون ذات تعبير براق، ولكنها لا تخدم إلا الأهداف المشار إليها سلفا، مع محاولة تجنيد الناشرين والمحامين والأطباء ورجال الإدارة والدبلوماسيين ثم القوم المنشئين في مدارس اليهود التقدمية الخاصة إلى غير ذلك مما جاء في بقية البروتوكولات 24 وخلاصتها وما جاء في البرتوكول الحادي عشر : “من رحمة الله أن شعبه المختار متشتت، وهذا التشتت الذي يبدو ضعفا فينا أمام العالم، أنه كا ن قوتنا التي وصلت بنا إلى عتبة السلطة العالمية” انتهى بروتوكولات حكماء صهيون.
تُرى ماذا أفادتنا تنظيماتنا المحلية والعالمية والإقليمية القديمة منها والمعاصرة؟!.
وعلى أية أسس بنيت؟!، وفي أي اتجاه هي تسير؟َ، ومن أي مصدر تتزود وتستنير؟
وعلى هذا الأساس أرى كما يرى غيري من العقلاء والحكماء الذين تعلمت منهم أن فلاحنا وسيطرتنا على أزمة الدنيا تكمن في 90 درجة.
بحيث تكون علاقتنا قوية في الاتجاهيين مع الله ومع الناس، حتى نتمكن من التغلب على بني صهيون وأعوانهم هنا وهناك {ولَيَنْصُرنّ الله من ينْصُرُه إنّ الله لقَوِيّ عَزِيز، الذِين إنْ مكَّنَّاهم في الأرض أقَامُو الصّلاة}.
وهذه هي العلاقة العمودية الوطيدة بالله التي لا تؤتي أكلها وثمرتها إلا إذا ارتبطت بالعلاقة الطيبة مع الناس والمجتمعات {وآتوْا الزّكَاة وأمَرُوا بالمَعْروف ونَهَوْا عنِ المُنْكَر وللّهِ عاقِبَةُ الأُمُور}.
وعندما نحلل الهزائم المتتالية للشعوب العربية والإسلامية نجدها مرتبطة ارتباطا وثيقا بهاتين العلاقتين :
1- واعتصموا بحبل الله جميعا وهي العلاقة العمودية.
2- ولا تفرقوا وهي العلاقة الأفقية.
وإذا أراد قوم التملص من الالتزامات العمودية بدعوى حرية العقيدة والدين كما تنص الدساتير، فإننا نقول لهم إن الوطنية التي هي القاسم المشترك بيننا وبينكم، ينبغي أن تبني العلاقات المحترمة، وحسن المعاملة والجوار، وقد عاش اليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب الملل والنحل في بلاد الإسلام حين كان الإسلام هو الحاكم، فما ظلمناهم، وما بخسناهم حقا من الحقوق، فكيف يصل الأمر إلى أن يصبح الحبل بين المسلمين أنفسهم مبتوتا بالنزاعات المذهبية و الحزبية {كُلُّ حزْبٍ بما لَدَيْهِم فرِحُون}.
لقد أساءت بعض حركاتنا الإسلامية علاقاتها بالمجتمع حين وقعت في فخ الولاء والبراء بادئ ذي بدء من كل ما يمت بصلة إلى الأنظمة والحكومات، ثم تحول هذا الداء إلى البراء من المجتمعات التي تواليها، بينما كان اليهود يتسللون لواذًا إلى الأنظمة والشعوب فيحدثون وكرا لهم هنا، ووكرا لهم هناك، حتى إذا التقت هذه الحلقة بتلك بالانضمام مع باقي الحلقات في العالم وجد الإسلاميون أنفسهم محاصرين بين كماشتي الأنظمة والشعوب، أعني الشعوب التي ملت من اجترار خطابات مألوفة معروفة، ولم تر في الواقع أي تغيير.
تعجبت ذات يوم وأنا أستمع إلى أحدهم يقول بين كوادره وإطاراته أمازلتم تتحدثون عن حلقات التربية ونحن قد قطعنا شوطا كبيرا بعيدا من أجل الأخذ بأزمة الأمور؟ أمر التربية يتكلف به كل إطار بنفسه ولستم صغاراً لنعيدكم إلى زمن الحلقات!!
وتبين بعد وقت ليس بالطويل أنهم ليسوا بحاجة إلى حلقات التربية التي كنا عليها ذات زمان فحسب، بل يجب أن نعود بهم إلى حلقات النشء الذين لم يبلغوا الحلم بعد، لأن الأكثرية -وهذه حقيقة ينبغي أن تقال-، الجسومُ جسومُ رجال، والعقولُ عقولُ أطفال!!
فلا علاقة بالله تحمد، ولا علاقة بالناس تزكو وتثمر، اللهم إلا التي تؤتي أكلها بالخصومات والعداوات، إننا في موضوع 90 درجة هذه بين أربعة أنواع لا خامس لها.
اثنان منها متضادان ولكنهما يحققان لأصحابهما التمكين.
واثنان لا خير فيهما على الإطلاق، وإن كان في أحدهما ما بشر الله به أهله بالأجر في الآخرة إذا أدى فيه ما عليه.
الأول : إنسان الدنيا والآخرة، وهو المعني بقوله تعالى : {إنّ الذِين قَالُوا ربُّنا اللّه ثم استقاموا تتنَزّل عليهم الملائِكة ألاّ تخَافُوا ولا تحْزَنُوا وأبْشِرُوا بالجَنّة التِي كُنْتُم تُوعَدُون}.
الثاني : إنسان الدنيا فقط، وهو ما يحققه الرجل الغربي والصهيوني اليهودي على السواء، إذ تكون علاقته بالناس طيبة، وبالأرض استثمارا وتجربة، فيستثمر من عليها ما يعود عليه في هذه الدنيا بالخير الوفير.
وإذا كان هذا الصنف معنيا بقوله تعالى : {وما لَهُ في الآخرة من نَصِيب} فهو على أية حال خير من الذي قال فيه الرسول } : >أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة< أو كما قال.
الثالث : وهو الصنف الثالث في هذا المجال لا إنسان الدنيا، ولا إنسان الآخرة، وما أكثر تعداد هؤلاء في صفوف المحسوبين على المسلمين اليوم، فالعلاقة بالله رياء أو غباء، أو برودة، لا يشعر فيها بقلب يخفق من خشية الله، ولا بعين تدمع خوفا من لقياه، والعلاقة بالناس غش، وخداع، ومراوغات، وأطماع، أي أن هذا هو المجتمع الطفيلي الذي يكون عالة على بقية الأمم والشعوب.
الرابع : إنسان الآخرة وليس إنسان الدنيا، وهو على قسمين : من حسنت علاقته بربه فآثر الاعتزال في الصوامع حابسا أذاه عن الناس، كما جاء في الحديث الشريف، فذاك ينال أجره بأحسن ما كان يعمل عند الله، وأما من زعم أن صلاته وصيامه، وقيامه وذكره يبيح له قطع الحبال مع المجتمع مع احتقاره والتطاول عليه، فكل ما يفعله من خير في علاقته العمودية تلك مردود عليه بدليل المرأة التي تصوم وتقوم وتؤذي الجيران، إذ أخبر الرسول أنها في النار.
ترى أين نضع أنفسنا في هذا التقسيم، يا ترى لو وضعنا أنفسنا تحت عين المجهر والإحصاء؟ النتيجة ستكون خيبة للآمال عندما ندرك أننا من الذين قال الله فيهم {قُل هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخْسَرِين أعمَالاً، الذِين ضَلَّ سَعْيُهُم في الحَيَاةِ الدُّنْيا وهُم يحْسِبُون أنهم يُحْسِنُون صُنْعا}(الكهف : 103- 104).
ذ. الصادق سلايمية
> جريدة البصائر ع 355