1) التقوى أساس ا لخيرات والبركات :
عقَّب الله تعالى على كل أحكام العدة بقوله : {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً} لأن بعض الناس ربما قد يتلاعبون في قضية العدة، ربما لا يضبطونها، ربما لا يعطون النفقة بفعل الشُّح والبخل والخوف من الإنفاق.
فالرجل يجور على المرأة ويظلمها ويأخذ حقها بسبب ماذا؟ بسبب امتناعه وشحه ورغبته الكبيرة في المال، لكن الله عز وجل يعطي العَبْد عوضاً آخر، ويفتح له مجالا آخر، وهو تقوى الله عزوجل، التي هي مصدر مهمٌّ جداً من مصادر الرزق، وخصوصا بالنسبة للأمة البشرية كلها، وللأمة الإسلامية، أي من أهم مصادر الرزق : تقْوى اللَّه.
إن الماديِّين لا يكادون يحسبون هذا الأمر فيعتبرون أنهم في قضية الرزق لا يَدَ لَهُم فيه، والأمر إنما هو عبارةٌ عن ممارسات ومعالجات.
فإذا جاءت ظاهرة الجفاف أو أيّ ظاهرة من الظواهر القاسية يتوقف كل شيء وتعود الأمة إلى الركود، فهل الإنسان مسؤول فعلا أن يعيش حالة خاصة من المجاعة والفقر؟! أو مسؤول عن البطالة على مستوى العالم الإسلامي كله، وعلى مستوى العالم، هل كل هذا جاء هكذا نتيجة لعوامل اقتصادية، لا يد للإنسان فيها؟
أم أن الإنسان مسؤول عن كل هذه الأشياء؟
الإنسان مسؤول عن كل شيء، كل هذه الأزمات والاضطرابات والاختلالات الإنسان مسؤول عنها، ولو أن الإنسان اتخذ طريقا آخر هو طريق تقوى الله لما كانت الأزمة حادَّةً كما هي الآن، لا عندنا ولا عند الأوروبيين، لأن الأزمة الاقتصادية ليست خاصة بالعالم الإسلامي، بل حتى في العالم الأوروبي.
نحن تجنّبنا توجيهَ الله عزوجل وقلنا إن إشكال هذه الأزمة هو كذا وكذا، هو أزمة اقتصادية خانقة، هو أزمة عامة وعالمية، هو تدهور عام، وكأن الإنسان ليس مسؤولا، أو ربما يريد أن يعالجها بتوغُّل أكثر في الشّر.
فما سبب الأزمة الاقتصادية؟! سببها تَرْكُ تقوى الله وليست الظروف المناخية والظروف الطبيعية هي السبب، وليست المعالجة بالتوغل أكثر في معصية الله فنقوم بإنشاء خمس كازينوهات (دور كبيرة خاصة بالقمار) في المغرب ممتازة، وسنستقطب السياح بها؟!
هذا ما يفكر فيه الاقتصاديون عندنا ليحُلُّوا الأزمة (سنرجع قمَّارين لكي نعيش) فكيف سيبارك الله في هذا العمل، هذا إمعان في المعصية.
الحكْمُ القرآني الشامل العام بعد كل هذه الأشياء هو أن من يتَّقِ الله يجعل لَهُ من شأنه ومن حالته يسراً، كُلُّ العسر وكُلّ المشاق والمشاكل والأزمات إذن تَجِد حلَّهَا في تقوى الله عز وجل خصوصا عندما تكون هذه التقوى تقوى جماعية، تقوى إيجابية متبادلة، أي تقوى الله في جميع المجالات.
التقوى نجدها في الموظف والتاجر والموجِّه التّقيِّ، والمسؤول التقي.
إننا لو فعلنا ذلك استطعنا أن نحاصر هذه الأزمات، وأن نفكّها وأن نرفع عن أنفسنا العنت، {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً ذلك أمر الله أنزله إليكم}.
أي ذلك الحكم هو أمر الله وقضاءُ الله، وقضاء الله تعالى هو قضاءٌ مبرّأ من الزلل، ومن الخطأ، لأن كل ما يصدر عن الله تعالى لا يصْدُر إلا تامًّا.
فكما أن الخلْق منه سبحانه وتعالى على أكْمَل صورة وأحسن تنسيق فالقضاء الإلهي والأمرُ الإلهي على أحسن صورة تصلح للإنسان، أي أمْرُ الله بمجرد ما يُنْسَبُ إلى الله فهذا يعْني أنه صالحٌ ونافعٌ ومجدٍ، وأنه مثلُ الأمر الإلهي الذي به قامت السماوات بجمالها وتنسيقها، فهو مثل الأمر الإلهي الذي يوجِّهُه تعالى للناس نحو الخير {ذلك أمرُ الله أنزَلَه إليكم}.
وفي معنى الإنزال ما يفيد بأنه أمرٌ شريف، وأمرٌ أعْلى نزل إلى الإنسان من الأعلى، وأن له هذا السُّمُوّ وهذه الرفعة، فهو إذن ليس إنتاج وفهْم البشر، وهو ليس تأَثُّر الإنسان بواقعه، الإنسان أحكامه تَتَّبِع مصالحه، وتخضع لشهواته، ولذلك كان الحكم البشري حكماً فيه تحيُّز، فيه ضعف، إن طبقتَهُ اليوم لن يصلُح لك غدًا، فأنتم تعرفون كثير ا من الأحكام البشرية طبقت على البشر كتجارب فلم تزد الأمر إلا تأزُّما وإلا شدة وإلا ضيقا. وأما أمرُ الله تعالى فهو نَزَل وكونُه نازلاً من الله سبحانه وتعالى معناه أنه ليس من الطابع الأرضيِّ، ولا من الإنتاج البشري، وليس فيه من النقص البشري، وإنما هو أمر سامٍ.
{ومن يتق الله يكفر عنه سيآته ويعظم لهُ أجرا}.
وهذا أمر آخرُ هذه إشادةٌ ثانية بالتقوى، واستحْثَاثٌ آخر على التقوى، {ومن يتق الله يكفر عنه سيآته ويعظم له أجرا}.
لاشك أن الإنسان هنا في هذا المقام كان يبحث في الطلاق والرجعة والنفقة وما إليها، والإنسان كان يتخوَّف من أن ينفق على زوجته فتضيق يده ففرّج الله على الإنسان حينما قال : {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} لكن كتاب الله يعدُ البشربأمر ليس هو فقط مطلوبهم، أي ماذا يطلب الناس؟ يطلب الناسُ أن لا تقع لهم ضائقة مالية، يخافون من الفقر إن هم أعطوا، يخافون من الفقر، إن هم تصدّقوا، الله تعالى قال لهم : إن أنتم فعلتم ذلك يجعل لكم من أمركم يُسْراً، لكن أكثر من ذلك يعدكم الله بأكثر مما يخطُر ببالكم ولم تكُونُوا تطلبونه، وهو أمرٌ أخرويٌّ، وهو أن يكفر الله عنكم سيآتكم ويعظم لكم أجراً.
2) والتقوى أساس تكفير السيآت وإعظام الحسنات :
يُكَفِّر عن الناس سيآتهم بمعنى أنه يُغَطِّيهَا لهم، ويتجاوز عنهم، ولا يُثْبِتُها في صحفهم، ولا يحاسَبُون بها فيكون ذلك فضلا كبيرا، لأن البشر إن واجهوا ربهم لم يقابلوه بجميع الآثام التي ارتكبوها، وهذا عطاءٌ كريم، وهذه بداية النعمة في الآخرة بأن يكفر الله عن الناس سيآتهم هذا من جهة، فمن جهة السيئات يُكَفّرها ويمحوها ويغطيها، ومَنْ هذا الإنسان الذي لم يرتكب من الآثام الشيء الكثير؟!
إن الإنسان لا يُعول على قضية العدل والميزان، فمن عوّل على قضية العدل والميزان لاشك كان هالكا، نحن لا نعوّل، نجتهد لاشك في ذلك، ويجب أن نجتهد في أمر ديننا، ولكن لا نكون معولين أكثر على أننا قدمنا حسناتٍ كبيرة، وأنها سوف تغلب سيآتنا، لا، وإنما دائما نطمَعُ في هذا الأمر الذي هو تدخل الرّحْمة الإلهية لستْر ذنوبنا وستْر عيوبنا وستْر آثامنا من جهة، فلا نُؤاخذ بها ومن أجل رفع حسناتنا وتكثيرها، والله تعالى إن شاء كثّر الحسنات، وأعظمها منّاً منه وفضلا، أي إن عامَلْنا الله تعالى بـ{من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره} فهو عامَلَنَا بالعدل الإلهي، وحينذاك لاشك أن كثيرًا منَّا هالك، البشر هالكون إذا عومِلوا بهذه المعاملة، مثقال ذرة من خير مثقال ذرة من شر، لاشك أن الشر فينا أكثرُ من الخير، وأن كثيرا من الخير فينا يدخلُه الرياء، وتدخُلُه أشياءتجُبُّهُ وتََنِْْسفه من الأساس، ولكن هذا ليس هو الذي يطمعُ فيه ويُعول عليه المؤمن، المعوّل عليه هو التدخُّلُ الإلهي، والرحمةُ الإلهية لتمحو السيآتِ وتُغطيها من جهة، ولتُعظم الحسنات وتثمرها وتكثرها من جهة.
3) ولا تعْظُم الحسنات إلا بالقَصْد الصحيح لنيْل مرضاة الله تعالى :
وهذا يتم بقدر ما يكون للإنسان من قصد صحيح إلى الله عز وجل، فمن كان يريد مرضاة الله وأخلص الطلب لله عز وجل عامله الله سبحانه وتعالى بهذا الأمر، فرُبَّ إنسان يأتي الحسنة الواحدة فإذا بها تُحسب له بسبع مائة حسنة، وهذا من إعظام الله تعالى الأجْرَ لعباده رحمة بهم، كأن الله تعالى أراد بالإنسان أن يكون ناجيا، فلذلك في مجال السيآت مَحا، وفي مجال الحسنات أعظَمَ وهذا شيءٌ كبير.
ولكن هذا الوعْد كله مُعَلَّق بفعل الإنسان الذي هو تقوى الله، إن هذا يطمع فيه الأتقياء، فمِنَ الإنسان يجبُ أن يكُونَ البدْءُ.
التقوى إذن تُعْظم الحسناتِ، تمحو السيآت، تفك الأزماتِ، تجلُب الخيرات، تجلب الأرزاق، إذن فمدار حياة المسلم على أن يتحقق له هذا الوصف الذي هو وصْفُ التَّقيِّ؛ فإن كان تقيا فقد حلّ به الخير من جميع وجوهه ومن جميع أقطاره.
أ.د. مصطفى بنحمزة