الإعلام لسان السياسة الـمخططة والـمتبعة :
قيل قديما >المرءُ بأصْغريْه : قلبِهِ ولِسَانِهِ< وقيل أيضا >المرْءُ مخْبُوءٌ تحْتَ لسَانِه< وقيل أيضا >تكَلَّمُوا تُعْرفُوا< مما يدلّ دلالة واضحة على أن الإعلام هو لِسانُ النظُم، ولسانُ الشعوب، ولسانُ الأمة، ولسانُ الأحزاب، ولسانُ التيارات والمذاهب والجماعات.
فاسْمَعْ لإذاعة شعب، أو فضائية دولة، أو اقرأ جريدة حزب، تعْرِفْ المتّجَة، وتعرفْ الهدَفَ، وتعْرفْ الهِمَّة!!
ونظراً لغياب هَدفِ الرسالة، أو غيابِ المُهِمَّة التي مِنْ أجلها وُجدتْ الأمّةُ الإسلامية، نظراً لغياب ذلك فإنك إذا ألْقيتَ نظرة عابرة على إعلام شُعوب ودُول أمتنا تجدْ إعْلامَ شعوبنا غارقاً في تعْبيد المُسْتضْعَفين لأصحاب السلطة، وأصحاب المال، وأصحاب الحزب الحاكم، وأصحاب الفكر الذي يسْتحْمِرُ الشعوب فيُلْهيها بالفُتاتِ مِن الوظائف، والفتات من الحرية، والفتات من الديمقراطية، والفتات من الإكْرامات، والفتات من المشاريع التي تؤسَّسُ ويعاد تأسيسُها أحيانا، وتُصْلَح ويعاد إصلاحُها أحيانا، وتُرقَّع ويعاد ترقيعها أحيانا كثيرة، ويا ويْلَ من فضَحَ المستور، وتعدى الحدّ المقدور!!!
فهلْ هناك مهزلة أكبر من مهزلة تأسيس ثلاثين، وأربعين، وخمسين حزباً في الشعب الواحد الذي لا يتعدى سكانه بضع عشرات الملايين؟! بينما الدول المتقدمة التي سكانُها مئاتُ الملايين لا تتعدى الأحزاب فيها حزبَيْن أو ثلاثة؟!
فما هي أهدافُ هذه الأحزاب المتناسلة تناسل النمل والجراد؟! مع الاعتذار لممالك النمل والجراد لأنها تعرف هدفها بالضبط وتتعاون على إنجازه؟!
فما مشروعية تعدُّدِها وتنوُّعُ المضامين يكادُ يكون معدوما؟! وما مشروعية تعدُّدها وسَقْفُ الحريات والتطلُّعات والطموحات محدودٌ جداً؟! فهل تسْتطيع أن تُبْدِع تحت السَّقْف المحْدُود، والضوء الأحمر الممدود؟! وهل تستطيع أن تنتج شيئا غيْرَ المطالب المكرورة؟! والخطابات الممْلُولة؟!
وهل هناك مهْزَلةٌ أكبَرُ من أن تكون هذه الأحزاب تؤسَّسُ لنيل المناصب وليْس لخدمة المبَادِئ؟! وتؤسّسُ لوأْدِ بعضها بعضاً بدل أن تتعاون وتتكامل؟!
إن هذا يدُلُّ على شيء واحد ووحيد هو عَدَم وجود هدف!!! هو ضَيَاعُ وتضييعُ الرسالة التي من أجْلها وُجدت الشعوب المنتمية للإسلام بصدق وإخْلاصٍ. وضياعُ الهدف الكبير، والرسالة الإنسانية العظيمة معناه التيهانُ والدّوران في دائرة حِمَارِ الطاحونة الذي يظل النهار كله يدور حول نقطة واحِدة وهو معصوب العينَيْن لا يرَى أيَّ أفُق من آفاق الحياة المحيطة به فضْلاً عن الحياة الغائبة عنه؟! {أفَحَسِبْتُم أنّما خلَقْناكُم عَبثاً وأنّكُم إِلَيْنا لا تُرْجَعُون}(المومنون : 116).
الله تعالى قسّم الإنســـان إلى مؤمن وكافر، فقال : {هُوَ الذي خَلَقُكُم فِمنْكُم كافِرٌ ومِنكُم مُومِن}(التغابن : 2) وقال للمؤمنين {وأنّ هذَا صِراطِي مُسْتقِيماً فاتّبِعُوه} ونهاهم عن اتباع السبُل الأخرى، فقال : {ولا تتّبِعُوا السُّبُل فتفَرّقَ بكُمْ عنْ سَبِيله ذلِكُمْ وصّاكُمْ بِهِ لعَلَّكُم تتّقُون}(الأنعام : 145).
أليس هذا الاهتراءُ التنظيميُّ دليلا على فقدان البوصلة الهادية؟! ودليلا على تضييع الهدف الذي له خُلِقْنا، ولهُ استُخْلِفْنا؟! وله ينبغي أن نسعى ونحيا ونموت؟! أليس هذا دَليلاً على أننا متأخرون جدّاً جدّاً عن الدول المتقدمة ماديا رغم أنها لا رسالة ربانية لها؟! بل أليس هذا دليلا على أننا متأخرون حتى عن الحيوان والجماد؟!
ألا يقول الله تعالى : {وإنْ مِن شيْء إلاّ يُسبِّحُ بحمْدِه ولكِن لا تفْقَهُون تسْبِيحَهم}(الإسراء : 44) وقال : {سبّحَ للّه مافِي السّماوات وما فِي الارْض}(الصف : 1) وقال : {يُسَبِّحُ للّهِ ما فِي السّماواتِ وما فِي الارْض}(الجمعة : 1).
ثمراتُ التجْديد الفكريِّ والهدفيِّ ثم الإعلاميّ :
ثمرات التجديد للفكر والهدف لا تعد ولا تحصى، ويأتي على رأسها :
1) إعادةُ النظر في كل الخطط السابقة المبنية على العشوائية والارتجال، أو المبنية على التقليد الحرفي لمن لارسالة لهم.
2) تجديد العهد برسالة الأمة، وفي التجديد للعهد ما لا يخفى من استئناف تنزُّل الأنوار الربانية، واستمْداد البركات والرحمات الإلهية التي كادَتْ الشعوب تفقد طَعْمها ومذاقها مند عقود التسكع في دروب العلمانية القاحلة.
3) ترسيخ شمولية الدين للدنيا والآخرة، فقد أُصِبْنا ومازلنا نعاني من شروخ سياسة الفصل بين الدين والدنيا على كل الأصعدة والمجالات.
4) تطْعِيمِ الشعوب المسلمة -من جديد- بلقاح العزة الإيمانيّة، والعدالة الاجتماعية.
5) تصحيح المفاهيم التي تُسَرَّب -إعلاميا وفكريا- للشعوب مُحرَّفةً عن حقيقتها التي أوجَدَها الله عز وجل عليها، كالإرْهاب، والمجتمع المدني، والحداثة، والقيم الكونية، فكل ذلك يقصَدُ به تهميش الدين وعزلُه عن الحياة، مع أن الله تعالى يقول {وللّه يَسْجُدُ مَنْ في السّماوات والارْض طوْعاً وكرْهاً وظِلالُهُم بالغُدُوِّ والآصَالِ}(الرعد : 16)، أيَكُون الكوْنُ كُلُّه ساجداً مُسَبِّحاً لله، بينما القيم الكونية في عُرْف الحداثيِّين تعْنِي تطليق العبودية لله رب العالمين…
6) إرجاع الحماس للنفوس المتشوقة للتجديد المنهض: على يد النّخب الواعية، التي تعرف كيف تخطط للمستقبل المنوّر بنور الهدى والتقى، وتعرف كيف تجنِّد الطاقات للتنفيد برضى واقتناع، وتعرف كيف تتجنَّب الأخطار القاتلة باتكالها على الله الذي يتولّى تنوير بصائر عباده الصالحين.
فقد ذاقت الأمة من الهزائم ما أفقدها الثقة بكل المتزعِّمين، وغاب عنها الحماس الذي كان يُخيِّلُ لها أنها ترى زعماءها على صفحات الأقمار والنجوم، بل غاب عنها الحماس الذي كان يدْفعها إلى أن تحمل سيارة الزعيم على الأكتاف، ظنا منها أنها عثرت على >صلاح الدِّين<، ثم اكتشفت أنها تهلُِّل لدكتاتور جاهل بفنون القيادة، وفنون السياسة، وفنون الحكم، وفنون الرعاية، وفنون الحب، وفنون التواضع، وفنون العدل، وفنون التخطيط الاستراتيجي، وفنون التذلُّل لله المنعم بالتمكين.
إن الشعوب في حاجة شديدة إلى من يوقظ فيها شعلة الحماس لتفجير الطاقات الكامنة في ضمائر شعوب الأمة، بعد تراكم الإفلاسات في كل ميدان، ولا سبيل لذلك إلا على يد الربّانِيِّين المخبوئين في عالم الغيب عند علام الغيوب.