عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : «ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيُوَرِّثُه»(1).
تقديم:
يتضح لنا من خلال هذا الحديث النبوي الشريف، أن للجار في الإسلام منزلة عظيمة، ومكانة شريفة، بحيث إن جبريل أعاد في أمر الجار وأبدى، تأكيدا لحقه وبيانا لحرمته، حتى أوشك الجار أن يكون وارثا لجاره كأحد أقربائه، وذلك من كثرة ما شدد الإسلام في حفظ حقوقه والإحسان إليه، خلافا لما نحن عليه اليوم من تنافر وتباعد بين الجيران بعضهم عن بعض، بل أصبح الجار لا يعرف جاره، ولو مرت عليهم الشهور والأعوام، فما أحوجنا إلى إرشاد الهدي النبوي في زماننا هذا حتى نُرجع للجار مكانته ومنزلته، ونؤدي حقوقه ونكف عنه الأذى، اقتداء بسنة نبي الهدى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، ما تعاقب اليل والنهار.
من هنا نتساءل: ما المقصود بالجار؟ وما مكانة الجار في الإسلام؟ وما هي الحقوق التي أولاه الإسلام إياها؟
ولعل أحسن تعريف للجار ما ذكره ابن حجر في فتح الباري: حيث قال: واسم الجار يشمل المسلم والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو والغريب والبَلَديَّ والنافع والضار والأجنبي والأقرب دارا والأبعد(2).
وقال الإمام القرطبي، الجار يطلق ويراد به الداخل في الجوار، ويطلق ويراد به المجاور في الدار وهو الأغلب وهو المراد(3).
والأهم من هذا كله، ليس أن نعرف حدود الجوار، بل نتطلع إلى معرفة وفهم ما للجار من حقوق وما عليه من واجبات، حتى نعمل بوصية النبي بدءا بالإحسان إليه، وانتهاء بكف الأذى عنه، لذا فإن حسن الجوار مطلب إيماني عظيم، وخلق إسلامي كريم، من دلائل البر والإيمان، ومن أروع صور الوفاء والإحسان، بل إن بشاشة الوجه حق مشترك بين إخوة الإسلام، والجار أولى بها لأنه هو من نلتقي به صباح مساء، ونجده في الشدة والرخاء، والسراء والضراء.
مكانة الجار في الإسلام:
نعم إن الإسلام كرَّم الجار ومنحه منزلة رفيعة، بحيث جعل من علامات كمال الإيمان إكرام الجار، كما جعل إكرام الجار من علامات صلاح العبد. عن أبي هريرة عن النبي قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره..»(4). كما روي عن أبي شريح الخزاعي أن النبي قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره»(5).
ثم إن الله تعالى قرن حق الجار بعبادته سبحانه وتوحيده، وبالإحسان للوالدين واليتامى والأرحام، فقال سبحانه في كتابه العزيز: واعـبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل..(6). ففي هذه الآية الكريمة يأمرنا الله جل جلاله بالإحسان إلى الجار مهما كان هذا الجار، سواء كان قريبا منك أو ليس بينك وبينه قرابة، كان جارا صالحا أو غير ذلك، فأنت مأمور بالإحسان إليه.
ومن أنواع الإحسان إلى الجار تعزيته عند المصيبة، وتهنئته عند الفرح، وعيادته عند المرض، ومبادرته بالسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وإرشاده إلى ما ينفعه في دينه ودنياه، ومواصلته بالمستطاع من ضروب الإحسان.
ومن صور التقصير في حق الجار، مضايقة الجار، وحسده، واحتقاره، وكشف أسراره، وتتبع عثراته، والفرح بزلاته، نسأل الله السلامة والعافية.
من حقوق الجوار في الإسلام:
إن حقوق الجار كثيرة عديدة، لكنها في جملتها تتلخص في أمور هامة، من قام بها فقد أدَّى ووَفىَّ حق جيرانه، نذكر منها: كف الأذى عن الجار، والإحسان إليه، والصبر على احتمال الأذى منه.
الحق الأول للجار: كف الأذى عنه.
إن الشريعة الإسلامية بأصولها وفروعها تحذرنا كل الحذر، من إذاية الجار، من ذلك ما رواه أبو هريرة أن رسول الله قال: «لا يدخل الجنة من لا يَأمَنُ جارُه بَوائقَهُ»(7). (بوائقه: ج بائقة، وهي الظلم والشر بشتى أنواعهما).
كما نبه على عِظَم خطر إيذاء الجار، فعن أبي هريرة قال: قيل للنبي : “إن فلانة تصوم النهار، وتقوم الليل، وتؤذي جيرانها بلسانها”، فقال : «لا خير فيها، هي في النار». قيل: “فإن فلانة تصلي المكتوبة وتصوم رمضان، وتتصدق بأثْوارٍ مِن أقِط ولا تؤذي أحدا بلسانها”، قال: «هي في الجنة»(8). يعني عملها قليل، غير أنها لا تؤذي أحدا، فكان ذلك سببا في دخولها الجنة.
وقد ربط الرسول عدم الإيذاء بالجار بقضية الإيمان بالله واليوم الآخر، ففي الحديث المروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره»(9). فإذاية الجار ليست بالأمر الهين، بل هي جريمة عظمى يرتكبها كل من آذى جاره وأهانه، فإذايته أشد تحريما، وإن كانت الإذاية أمر حرمته الشريعة تجاه كل أحد كيف ما كان شكله ولونه.
عن المقداد بن الأسود قال: سأل رسول الله أصحابه عن الزنا؟ قالوا: حرام حرمه الله ورسوله، فقال: «لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره»، وسألهم عن السرقة؟ قالوا: حرام حرمها الله ورسوله، فقال: «لأن يسرق من عشرة أهل أبيات، أيسر عليه من أن يسرق من بيت أهل جاره»(10).
عن عبد الله بن مسعود قال: قلت يا رسول الله، أيُّ الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله نِدّا وهو خلقك»، قلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يَأْكل معك». قال: ثم أي؟ قال: «أن تُزَاني حَلِيلَة جارك»(11).
فكثيرا من النصوص الشرعية رغبت في إكرام الجار ودعت إلى الإحسان إليه، وشددت على كل من سولت له نفسه إذاية جاره بأشد العقوبات، ونفت عنه كمال الإيمان، ودخول الجنة، فيا من يريد الجنة ونعيمها، اجتنب إلحاق الضرر بالجار وبغيره، وقد ورد في الأثر عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله قال: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره»(12).
الحق الثاني للجار: احتمال الأذى منه، أو الصبر على أذاه.
وفي هذا قيل: “ليس حسنُ الجوار كفّ الأذى، وإنما هو الصبر على الأذى”.
فيا سعادة من صبر على أذى الجار، فهو من المحبوبين عند الله، وهنيئا لك أخي المسلم بمحبة الله لك، من ذلك ما روي عن أبي ذر قال: قال رسول الله : «إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة، وذكر من الثلاثة الذين يحبهم الله ، رجلا له جار سوء فهو يؤذيه، ويصبر على أذاه، فيكفيه الله إياه بحياة أو موت»(13).
ومن تأمل نصوص السنة النبوية وجد فيها صنفين من الجيران، صنف يشمله الصلاح، وصنف ابتلاء واختبار.
فالجار الصالح يعرف حق الجوار، ويعطيه قدره ومستحقه، وهذا الصنف هبة من الله ومنحة، تستوجب الشكر والثناء، فعن نافع بن عبد الحارث قال: قال رسول الله : «من سعادة المرء الجار الصالح، والمركب الهنيء، والمسكن الواسع»(14).
وأما جار السوء فهو ابتلاء وعذاب، بل هو من أعظم البلايا؛ لأنه يرافقك ويجاورك ولا يوافقك، وهذا الصنف كان يتعوذ منه الرسول حيث كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقام، فإن جار الدنيا يتحول»(15).
وختاما نقول إن الشرع الحنيف منح الجار مكانة مرموقة، وأمر بإكرامه والإحسان إليه، ونهى عن إذايته، كما مدح الجار الصالح، وذم الجار الطالح، الذي لا يعطي للجوار حقه، فنفى عنه كمال الإيمان، وجعل خير الأصحاب من كان يحسن إلى صاحبه، فاللهم ارزقنا جيرانا صالحين، هادين مهتدين، داعين إلى الصراط المستقيم، بالأحوال قبل الأقوال، آمين آمين، والحمد لله رب العالمين، والله تعالى أعلى وأعلم، وأجل وأعظم.
ذ. علي السباع
——————–
1 – أخرجه البخاري في صحيحه، باب الوصية بالجار، ج 8 ص 10.
2 – فتح الباري: لابن حجر، باب الوصاءة بالجار، ج 10 ص 441.
3 – عمدة القاري: لبدر الدين العيني، باب الوصاءة، ج 22 ص 108.
4 – صحيح مسلم: باب الحث على إكرام الجار والضيف، ج 1 ص 68.
5 – المصدر نفسه.
6 – سورة النساء: الأية 35.
7 – رواه مسلم في صحيحه: باب بيان تحريم إيذاء الجار، ج 1 ص 68.
8 – المستدرك على الصحيحين: للحاكم النيسابوري، ج 4 ص 184.
9 – صحيح البخاري: باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه، ج 8 ص 32.
10 – الأدب المفرد: للإمام البخاري، باب حق الجار، ج 1 ص 50.
11 – صحيح البخاري: باب قتل الولد خشية أن يأكل معه، ج 8 ص 8.
12 – الأدب المفرد: للبخاري، باب خير الجيران، ج 1 ص 53.
13 – سنن أبي داود: ج 1 ص 375.
14 – الأدب المفرد: للبخاري، ج 1 ص 54.
15 – المصدر نفسه.