بسم الله الرحمن الرحيم
وصل اللهم وسلم على النبي الأمين؛ المرسل بالكتاب المبين؛ رحمة للعالمين وعلى آله الطيبين وصحبه أجمعين،
ثم أما بعد،
فقد رزئت الأمة الإسلامية عامة والمغربية خاصة، وأسرة العلماء بشكل أخص؛ في رحيل عالم بالقرآن؛ وإنه لَعِلم له من حيث تذوقه في عصره فلا تمترن به؛ وإلا فارجعوا إلى آثاره تنبئكم خبره؛ من كتب ودروس وخطب وآراء رصينة السبك قوية الحجة، إنه أستاذي الحبيب فريد الأنصاري؛ الذي أشرف على بحثي لنيل شهادة الإجازة في الدراسات الإسلامية، والذي رافقني في دروب الأطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، ومن ثم كانت لي معه ذكريات لا تنسى اذكر من بينها الفقرات التالية:
1- توجيه للأولى والأصلح:
كنت أتابع دراستي الجامعية وأنا أشتغل بالتربية والتعليم، وطلبت من الدكتور فريد الأنصاري قبول الإشراف على بحثي لنيل شهادة الإجازة، فقَبل جزاه الله كل خير دون تردد، ثم عرضت عليه بعض المواضيع المقترحة؛ ك”قواعد تربوية من خلال كتاب الفوائد لابن قيم الجوزية” و”من عجائب مخلوقات الله من خلال مجلة الأمة القطرية؛ جمع وتصنيف ودراسة وتحليل”.. الأول باعتبار اشتغالي بالتربية، والثاني باعتبار تخصصي السابق في كلية العلوم .. ، فقال رحمه الله تعالى حسب ما أتذكر: “هذه البحوث يمكن أن تقوم بها بمفردك؛ ولا تحتاج فيها إلى إشراف، ينبغي الاشتغال بالعلم” وقصد بذلك الفقه والأصول، ومن ثم كان البحث في “أسباب اختلاف الفقهاء من خلال نيل الأوطار للإمام الشوكاني”.
ولنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، اقترح علينا فضيلة الأستاذ الدكتور الشاهد البوشيخي حفظه الله تعالى، مصطلحات للبحث فيها بمنهج الدراسات المصطلحية، فكان من نصيبي بسبب تأخري واختيار من سبقني أن بقي لي مصطلح “الجن”، فبحثت فيه خلال السنة الأولى، فلم أقتنع بمواصلة البحث في الموضوع نفسه؛ لنيل شهادة الدكتوراه، فزرت الدكتور فريد الأنصاري تقبله الله في الصالحين، فتداولنا مصطلحات متعددة، فأرشدني رحمه الله إلى البحث في مفهوم الغيب وعلل ذلك بكون الأمة اليوم تواجه مما تواجهه من التحديات، حديث بعض أعداء الإسلام عن التصور الإسلامي للتغيير؛ على اعتبار أنه تصور غيبي في مقابلة التصور العقلاني؛ بقصد زعزعة شباب الأمة في عقيدته …
2- تضحية إلى أبعد الحدود:
كلما طرقت باب منزله رحمه الله تعالى، وأُخبر بالطارق يأذن بالدخول على الفور؛ فنناقش ما جئت من أجله، وكان كثيرا ما يُصر على تناول وجبة من الوجبات معه، وفي يوم من الأيام أحسست وكأني أثقل عليه وآخذ الثمين من وقته، فاعتذرت على ذلك، فما كان منه جعله الله في أعلى عليين، إلا أن قال- حسب ما أتذكر-:”لا تتردد في طرق الباب ولو جئت في منتصف الليل، أنت لا تأتي للاستراحة وضياع الوقت كما يفعل البعض..”.
وفيآخر زيارة له قبل سفره الأخير إلى تركيا؛ وقد تردد في قبولها؛ بسبب تدهور حالته الصحية، وجدته رحمه الله تعالى طريح الفراش لم يستطع القيام، ولكن الغريب في الأمر أني لاحظت إلى جانبه جهاز حاسوب محمول على طاولة صغيرة ، الأمر الذي يدل على مواصلة الجهاد العلمي والتعليمي بالكتابة والرد على الرسائل الإلكترونية.. وهو على فراش المرض، وكأني به يتمثل حديث الرسول عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ >إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ<(رواه أحمد).
3- وصية بتجديد الدين من داخل الدعاة:
نظرا لتجربته في الدعوة إلى الله واتصاله بالدعاة بشتى ألوانهم، ومعرفته بواقع الناس ومدى تأثير الدعوة فيهم، وقعت عين بصيرته رحمه الله على بعض الآفات في طريق الدعاة، وتيسر لي-بإذن الله تعالى- حضور كلمة ألقاها في بعض المناسبات، دعا فيها إلى علاج تلك الآفات، بخطاب مباشر للدعاة ركز فيه على ضرورة تجديد دين وإيمان الدعاة؛ قبل وأثناء وبعد دعوة عموم الناس إلى تجديد دينهم وإيمانهم، وفصل القول في الموضوع، تأثرت بهذه الكلمة المباركة أيما تأثر، بل ودعوت إلى تنزيل مقتضياتها على أرضية واقع الدعاة، ولازلت أدعو إلى ذلك عسى الله أن يجعل إلى تحقيق القصد سبيلا.
4- وصية بخدمة القرآن بالـمستطاع :
بعد تحملي لمسؤولية رئاسة المجلس العلمي المحلي للرشيدية، زرته قاصدا بذلك عيادته والاستفادة من تجربته الغنية في تسيير المجلس العلمي المحلي لمكناس، ومن ثم أسدى إلي بعض الوصايا الثمينة من بينها التحلي بالحكمة بشكل عام، وفتح المجال أمام الكفاءات العاقلة الراغبة في خدمة دينها ووطنها… وركز في الأخير على ضرورة إعادة الاعتبار للقرآن الكريم وخدمته في كل ما يتعلق به بالمستطاع من الوسائل، خصوصا وأن منطقة تافيلالت التي عرفت عبر زمن طويل بالحفظ الجيد للقرآن الكريم وحسن تلاوته… وانتشار ذلك في كل قرية من قراها؛ تراجع كل ذلك فيها بشكل كبير لم يكن يتصور قبل….
هذا غيض من فيض كبير مما يمكن قوله في حق الأستاذ الكبير الدكتور فريد الأنصاري عليه رحمه الله، وأمامي وأنا اكتب هذه الكلمات مذكرة مسودة بعناصر أكثر مما كتبت، وختاما أقول:
انطلاقا مما سلف وغيره إن قالوا رحلتَ، أقول رحلت بجسدك الطاهر الذي ووري الثرى، وبروحك الطيبة التي صعدت إلى العلا -نحسبك كذلك والله حسيبك ولا نزكي على الله أحدا- ولكن ما رحلت بعلمك النافع الذي تركت، وتوجيهاتك ووصاياك الغالية التي خلفت … فأسأل الله تعالى أن يجعلك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. و{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} والحمد لله على كل حال.
د. إدريس مولودي
رئيس المجلس العلمي المحلي للراشيدية