خطبة منبرية من المسجد الحرام ليوم الجمعة 13 ذي الحجة1431
الخطبة الأولى
أمّا بعد: أيّها المسلمون، حُجَّاجَ بيت الله الحرام، اتَّقوا الله تعالى وأطيعوه، وعظِّموا أمرَه ولا تعصوه، فعمَّا قليل يُقال: فلانٌ هلَك، فيا حسرتَه على ما قدَّم من شرّ! ويا ندامته على الخير الذي ترَك! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(الحشر: 18).
عبادَ الله، حُجَّاجَ بيت الله الحرام، يا من أفَضتُم إلى المُزدلِفةِ من عرفات، وبِتُّم في مِنى ورَمَيتم الجمرات، يا من سحتم بين زمزم والمقام، هذه هي مُتنزَّل آي الكتاب، وتلك معالم التوحيد، وها هنا خُتِمَت الشرائع، وارتضَى الله لنا الدينَ، لقد أفضتمبين هاتيك الرّبوع، وسُحتم بين تلك المشاعِر وتيك الجُموع، إنها آثار الأنبياء وذكريات المرسلين، وهذه رحِمُ الأمّة التي أنجَبَت الصحابة والفاتحين. هنا معقِل التوحيد، وحولَ الكعبة نُشِر الشرك وأُبطِل التنديد (أي تجعل لله ندا).
يا مَعشرَ الحجيج، أنتم الآنَ وفي هذه السّاعة تقِفون على الأرضِ التي هي مَركَز نشأة الأمّة، نشأتها جماعة ومُعتقدًا، وتكوُّنها شريعةً وسلوكًا، فآلَت عاقبتُها إلى كلِّ خير، وانتهى مجدُها فوقَ كلّ مجد، فإن أردتم وأنتم بَينَكم وبين تلك النشأة قرونًا وأعصارًا، إن أردتم إعادة الكرَّة وتلمُّس الطريق فهنا الآثار وهذا السبيل. فتزوَّدوا من هذا المشعر الدروسَ، والتمسوا من هذه الشعيرة أسباب النهوض، فهذه وقفة تأمُّل في خِتام أيامِ الحج.
أيّها المؤمنون، إنَّ أمّتنا المسلمة ومنذ ما يزيد على قرنٍ من الزمان حين تقهقَرَت في شؤون الحياة وتفكَّكَت أجزاؤها فيعالم الدُّوَل لم يزَل أفرادُها يحلُمون بالوحدَة الجغرافية الكبرى، ويعتقِدون أنها السبيلُ الوَحيد لاسترداد مجدٍ غابر واستعادة عِزٍّ آثِر، ونُظِمَت في هذا السبيل القصائد الجِياد، وأُلِّفت الكتب، ورُصِفَت المقالات، وأصبح الكُتَّاب والمُفكِّرون ينامون على هذا الحلُم ويصحَون، وما في طبِّهم رُقية إمام دار الهجرة: “لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”، وما في دوائهم أن الذي ابتدأ مجدَ العرب ورسَم سبيل رفعتهم لم يبدأ بتوحيد العرب حتى وحَّد عقائدهم، وكانت وحدة الشعوب نتيجةً لوحدة المُعتقَد.
إنَّ المسلمين إن لم يجمعهم الحقّ شعَّبَهم الباطل، وإذا لم تُوحِّدهم عبادة الرحمن مزَّقَتهم عبادةُ الشيطان، وإذا لم يأتلِفوا على كلمة التوحيد فسيظلُّون في أمرٍ مريج، فأين كثيرٌ من المسلمين وأين عقيدتهم التي امتهَدَت في هذه الفِياح، وما زالت معالمها قائمة في هذه الربوع، وشواهدهاتُرى في هذه المشاعر؟!
لقد كان المسلم الأول يمُرُّ على قولِ الله عزّ وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}(الجن: 18)، فتحول بينه وبين الخلق جميعًا، وتسُدُّ عليه طريق الرغبة في العباد كافة، فتمُرُّ به مصائب الناس جميعًا، فلا يدل مخلوقًا على مكان ألمه، ولا يكشِف لغير الله عن موضع علَّته. لقد كان يسمع قول الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُومِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(البقرة: 186)، فينفي كل وساطةٍ بينه وبين ربه، ويجعل الصلة مباشرةً مع الله.
أيّها المسلم، لم يُنعِمِ الله عليك نعمةً هي أوفَى ولا أمَنّ ولا أسبغ من كونك مسلمًا لله مع المسلمين، هنيئًا لك إسلامُك، وانعَم بإيمانك، فقد هداك الله يوم ضلَّ غيرُك، وأرشَدَك حين تاهَ سواك، إلهُك الله، وإمامُك نبي، وشريعتُك وحي، وموعودك الجنة، والدين يُسر، فصلواتك أجور، وقراءتك القرآن نور، زكاتُك مطهرة، وحجُّك مغفرة، وصومُك لله لا حدَّ لجزائه، وضوؤك مُكفِّرٌ للخطايا، وتبسُّمك في وجه أخيك صدقة، حسنتُك بعشر، وسيئتُك بواحدة، والحسنات يُذهِبن السيئات، أعمالُك يسيرة، وأجورك كثيرة، فاعرف قدر هذا الدين، وتمسَّك به مع المُتمسِّكين، فقد زهِد في بعض أحكامه أُناسٌ، وانتقَصَ منه آخرون، مع أن الله أكمَلَه، وامتنَّ بذلك بآية المائدة، فمن انتقَصَ منه شيئًا بعدما أكملَه الله فقد ردَّ على الله إكماله، ولم يقبل منه امتنانه بذلك وإفضاله.
أيها المسلمون، شريعةُ الله رحبَة، أوامرُها كثيرة وإن كانت يسيرة، والمشروع فيها بحرٌ له ساحل، فالزَموا السنة واكتفوا بها، وعليكم بالمشروع فقد كُفِيتم، إياكم والبدعة؛ فإن كل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، لا تشرَعوا في الدين ما لميأذَن به الله، إياكم والرأيَ في الدين، وقد تديَّن بهذا الدين من هو خيرٌ منكم في سالِف الأزمان، فلم يزيدوا فيه ولم يُضيفوا إليه.
إنَّ خطرَ الابتداع في الدين يتمثَّل في تغيير وجهِ الإسلام الذي جاء به محمّدٌ حتى يحول على مرّ الزمان كأديان أهل الكتاب التي بدَّلوها فنُسِخَت، فيتغيَّر وجه الدين يومًا بعد يوم، ويتديَّن الناس بدينٍ لم يأتِ به محمد ، ولم يعرفه أبو بكر ولا عمر ولا الصحابة المهديُّون، فهذا يستحبُّ أمرًا، وذاك يُضيفُ شعيرة، والآخر يرتضي سلوكًا، وغيرُه يزيد عبادة، فإذا نحن أمام إسلامٍ بالاسم لا بالرسم، ودينٍ ليس استمدادُه من السماء، بل من العقول والأهواء.
فاللهَ اللهَ يا عباد الله، تمسَّكوا بأصل دينكم وأوله وآخره وأُسِّه ورأسه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، واعرفوا معناها، وأحِبُّوها، وأحِبُّوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم ولو كانوا بعيدين.
فاتَّحِدوا -أيها المسلمون- على التوحيد والسنة؛ فإنها الوحدة التي تغيظ الشيطان، وتهدِم خطط أوليائه من الإنس والجان، ولا يزال الذين كفروا يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا.
أيها المسلمون، إنَّ وحدة الشعور بين المسلمين ومشاركتهم أملا وألمًا وفي السرَّاء والضرَّاء لمن أهم معالم الوحدة، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ((مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثلُ الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَر والحُمَّى))(رواه مسلم).
عباد الله، إنَّ الشعوب المسلمة تتفاوَت غِنى وفقرًا وقدرةً وعجزًا وتعلُّمًا وجهلاً، فلا يكونن هذا الفرق مدعاةً لبَطَر القوي، ولا جانبًا لحَسَد الضعيف، ليكن إحسان الظن مُقدَّمًا عند الجميع، وليعطِف القوي على الضعيف، {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}(النساء: 32)، ليكن التكامُلبين الشعوب المسلمة هاجِسَ حُكَّامها، والتعاوُن في سبيل الرِّفعة همَّ حُكمائها، والتصافي بين النفوس دأَبَ عُقلائها.
لقد وحَّدَت المصالح أممًا تبايَنَت بهم اللغات، واختَلَفَت بهم الأعراق، وكانت بينهم قبل عقودٍ قليلة حروبٌ عُظمى وإباداتٌ كبرى، فما منعَهم ذلك أن يطوُوا تلك الصحائف وينسَوا تلك الضغائن والأحقاد في سبيل المصلحة الأعم والمستقبل الأفضل. أفَلَسنا نحن العرب والمسلمين أوْلَى بذلك؟! كفانا تنابُزًا واختلافًا، وحسبُنا فُرقةً واتهامًا؛ فإن المرحلة لا تحتمل، وقد بلغ غيرُنا في شؤون الحياة شأْوًا بعيدًا، وغدَونا في مرتبةٍ لا يُؤبَه بها بين الأمم، وليس لها مدى في سباق الحضارات، غاب منا التأثير حين عجِزنا عن التغيير، والله لا يُغيِّر ما بقومٍ حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم، فإن هذه الحال لا يرضاها الله لنا، وقد وصَفَنا بأنا خير أمة، ولا تليقُ بنا ونحن ملَّتنا أكرم ملَّة.
فالنهوض بهذه الأمة واجبٌ على أفرادها، ولا نستطيع ذلك حتى نُحسِن صلَتنا بالله أولاً، ثم نعمل مُخلصين جادِّين ثانيًا، وأن تتكامل القدرات بين الشعوب المسلمة ثالثًا، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(المؤمنون: 52)، {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(الأنفال: 46).
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، له الحمد مِلءَ الأرض وملءَ السماوات، اللهمّ لك الحمد على ما يسَّرتَ من تمام الحجِّ وكماله، وما أسبَغتَ من النعمة والتوفيق والتيسير والتسديد والأمن والأمان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، في هذا اليوم يرمي الحاجّ الجمرات، وبمغيب شمس هذا اليوم تُطوَى صَفحَةُ أيام التشريق، وينقَضي وقتُ نحرِ الأضاحي.
وإذا أراد الحاجّ أن يرجع إلى بلده فيجبُ عليه أن يطوفَ بهذا البيت طوافَ الوداع، ولا يلزَمه سعيٌ له ولا حَلق.
ولئن انقَضَت هذه الأيّام الفاضلة فإنّ عُمرَ المؤمن كلّه خير، هو مزرعة الحسنات، ومغرِس الطاعات، والمؤمنُ لا يزيدُه عُمره إلا خيرًا، وعبادةُ الله لا يحُدُّها زمانٌ ولا مَكان، فرُبَّ عابدٍ في ذُرَى جِبال السِّند هو أقرب إلى الله من مُتعبِّدٍ عندَ الكعبة، ورُبَّ مُصلٍّ عند جبل طارِق تبلغُ صلاتُه ما لم تبلُغه صلاةُ مُصلٍّ في الروضة الشريفة؛ فإنَّ معيار القبول هو إخلاصُ العامل لله ومُتابعته رسولَ الله، وفضلُ الله واسع.
ومن علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها، وعلامة الحج المبرورأن تعود خيرًا مما كنتَ، ومن طهُرَت صحيفة عمله بالغفران فليحذَر العودة إلى دَنَس الآثام، فالنَّكثَة أشد من الجُرح. وليكن من الخير في ازدياد؛ فإن ذلك من علامة القبول.
ثم الصلوات الزاكيات والتسليمات الدائمات على أشرف خلق الله محمد رسول الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء المرضيين: أبي بكر وعمر وعثمان وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين…
الشيخ صالح بن محمد آل طالب
خطيب المسجد الحرام