عن معاوية بن أبى سفيان قال: سمعت رسول الله يقول: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله» (صحيح البخاري).
التفقه في الدين ضرورة دينية وكونية واجتماعية؛ فهو الساهر على حفظ مصالح البلاد والعباد، وركن أساسي لبناء مجتمع تقام فيه العدالة، وتصان فيه الكرامة. هذا الدور القيادي للفقه غاب عن واقعنا منذ زمن ليس بالقصير، وتكونت للناس بخصوصه تمثلات خاطئة روجت لخدمة أهداف معينة. مما يجعلنا نتساءل: ما الغاية من نشر هذه الشبهات عن الفقه والفقيه؟ وهل لها مستند علمي موضوعي؟ وكيف يمكننا في المقابل إعادة الفقه والفقيه إلى قيادة سفينة المجتمع لترسو على شواطئ النجاة؟
أولا: التفقه في الدين وأهم مقومات تحقيقه:
يقول : «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» فالتفقه في الدين خاضع لإرادة الله تعالى، قال ابن حجر: “هذا الحديث مشتمل على ثلاثة أحكام: …ثانيها: أن المعطي في الحقيقة هو الله(1)”، وللتوافق مع هذه الإرادة يلزم مريد التفقه تحصيل ما يلي:
1 ــ إخلاص النية لله تعالى في طلب العلم الشرعي؛ لأنه وسيلة لتحقيق معرفة الله وعبادته، قال النووي معلقا على هذا الحديث: “فيه فضيلة العلم.. وسببه أنه قائد إلى تقوى الله تعالى”(2). فهو يخرج الإنسان من دائرة الشهوات المنحطة، إلى مدار التكليفات الشرعية، فيكون هواه تبعا لما شرع الله، ويؤكد هذا الشرط قوله : «من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار» (سنن الترمذي, وقال: هذا حديث حسن).
فإذا كان قصد مريد التفقه في الدين إنذار الناس وتحذيرهم فلا شك أن الله سيفتح له باب المعرفة، ويضيء قلبه بنور الإيمان، فيدرك حقيقة الأشياء ويعلم بواطنها؛ لقوله : «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي»، فالله هو المعلم والمعطي لعبده.
إن تعلم الأحكام الشرعية واجب على كل مسلم ومسلمة بحسب القدر الذي يضبط به عقيدته، ويصحح به عبادته، ويعرف به ما ينظم شؤونه اليومية مما لا غنى له عنه، قال : «طلب العلم فريضة على كل مسلم» (سنن البيهقي). أما التخصص والتبحر في الفقه فهو فرض كفاية، لقوله تعالى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون(التوبة: 122).
وعليه؛ فالتفقه في الدين أمر ضروري؛ لأنه لا تستقيم حياة المسلمين بدون ذلك، فهو السبيل للنجاة من عقاب الله تعالى، أما باقي العلوم الدنيوية فهي خادمة له، ومعينة على تحقيق مقاصده؛ فالعلوم الكونية لوحدها دون معرفة شرع الله والالتزام به، تحقق فقط مصالح الدنيا الفانية، فهي بهذا المعنى لا تعدو أن تكون حرفا متطورة للتكسب، فعلم الطب، والهندسة، والكيمياء، والفيزياء، والرياضيات وغيرها.. من العلوم التي تيسر حياة الناس في الدنيا إذا لم توصل لمعرفة الخالق ولتطبيق أحكامه، فهي من قبيل الحرف والمهن؛ ولا يدخل صاحبها في شرف قوله تعالى: فاعلم انه لا اله إلا الله واستغفر لذنبك(محمد: 19).
2 ــ التلقي المباشر عن الفقهاء الراسخين في العلم؛ أقصد بذلك الاعتماد على العلماء الربانيين، المشهود لهم بالكفاءة العلمية، والملكة الراسخة، والمنهج القويم في استنباط الأحكام وتنزيلها، فهم وقاية المجتمع من الوقوع في الزلل؛ لأنهم حققوا شرط الصلاح والتقوى، والعدالة والتزكية، لقوله : «إنما أنا قاسم والله يعطي» فالله فتح عليهم أبواب الفهم وخصهم به، فالأخذ عنهم أسلم للأمة، لتحقق الاستقلالية التامة لهم، فلا يتأثرون بسلطة، أو مال، أو انتماء لجهة ما.
فالفقيه الرباني يضمن للأمة تربية سليمة موافقة لشرع الله، إذ لا تربية صحيحة مع الجهل بأحكام الشرع، قال : «فقيه أشد على الشيطان من ألف عابد» (سنن الترمذي)، قال: هذا حديث غريب. وهذا مدخل آخر تساهل فيه الناس فكثرت مفاسده؛ نتيجة ما تقوم به بعض الجماعات التي تتبنى التربية المجردة عن الأحكام الفقهية، فيكون منهجها بعيدا عن الشرع، وخاضعا لهوى المربي، والغريب أنهم يتبنون أطروحة عدم الحاجة إلى معرفة الأحكام الفقهية، بل يكفيهم كما يزعمون معرفة القيم والمقاصد الشرعية المجردة، ولست أدري كيف تؤسس القيم والمقاصد دون معرفة الأحكام الشرعية؟
كان النبي يوحى إليه، ووفق هذا الوحي يعلم ويربي؛ فبالعلم نعرف الله تعالى، ونعرف الحلال والحرام، ثم نعمل وفق ذلك، فتكون التربية صحيحة، وهذا ما أكده البخاري بقوله : «باب العلم قبل القول والعمل» (صحيح البخاري). فلا يمكن الفصل بين الفقه والتربية، فكل فقيه مربي بالضرورة، ولا نتصور تربية دون فقه؛ لأن التربية سلوك وعمل ولا عمل موافق لمراد الله دون فقه. فالمنهج ثلاثي: التلقي من الوحي بواسطة التفقه، ثم التبليغ والتعليم، ثم العمل والتربية.
كما أن أخذ الفقه من بعض الكتب، أو الأشرطة، أو المواقع مباشرة دون اعتماد منهج التدرج في التعلم على الفقهاء طريق إلى الزلل؛ فالفقه صنعة تحتاج إلى صانع حاذق يعلم الناس، ثم إن أخذ الفقه بمجالسة العلماء يتم بعد معرفة كفاءتهم وحالهم من الصلاح والتقوى، وهذا لا يتأتى بالاقتصار على الكتب، والأشرطة، والمواقع، ولا يضمن الفهم السليم للأحكام، لذلك فهذا المنهج يؤدي إلى نشر الفتن بين الناس وتمييع الفتاوى الفقهية عبر وسائل الإعلام المغرضة.
ثانيا: ثمرات التفقه في الدين:
تظهر هذه الثمرات في قوله : «مَن يرد الله به خيرًا يُفقِّهه في الدين… ولن تزال …الخ»، فتنكير «خيرا» في الحديث يفيد أن أي تفقه صحيح في الدين قليلا كان أم كثيرا فإنه يحقق للناس مطلق الخير ليشمل بذلك:
1 – الوقوف عند حدود الله تعالى:
بمعرفته حقا وصدقا؛ مما يضمن عقيدة سليمة وصحيحة، قال تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم(آل عمران: 18)؛ لأن كل اعتقاد خاطئ تعقبه تصرفات اجتماعية منحرفة فاسدة؛ كالشرك بالله، والشعوذة، والسحر… وكل ذلك يفوت سعادة الدنيا والآخرة معا.
بعبادته كما أراد أن يعبد؛ بعيدا عن البدع وشطحات الهوى؛ فالعبادة الصحيحة تضبط سلوك الأفراد وتحميهم من الانغماس في المعاصي، وهذا لا يحصل إلا إذا كانت العبادة بعلم، لهذا قال : «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» (سنن الترمذي)؛ لأن الفقيه يحقق في عبادته الشروط كاملة.
بتمييز الفرق بين المنكر فيحاربه وبين المعروف فيدعو إليه؛ لقوله : «وإن العلماء ورثة الأنبياء..» (صحيح مسلم). لأن مهمتهم التبليغ والبيان، مما يضمن تحقيق التوازن في العلاقات الاجتماعية، والحفاظ على المصلحة العامة.
بنشر القيم النبيلة الموافقة لضوابط الوحي ومقاصده؛ ونبذ المفاهيم والتصورات الغربية المتطرفة، التي تحميها قوانينهم، وتروج لها وسائل إعلامهم، مثل الزواج المثلي، وحرية الدعارة… لتعارضها مع أحكام الإسلام والفطرة السليمة، قال : «إن مثل العلماء في الأرض كمثل نجوم السماء، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم يوشك أن تضل الهداة» (مسند أحمد).
2 – الحفاظ على مصالح العباد:
ببناء مجتمع آمن مستقر؛ يتحقق فيه التكامل بين الجسد والروح، وبين العقل والقلب، وبين العبادة والعمل، وبين العلم الرباني والمعرفة الكونية، لتحقيق خلافة الله في أرضه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتفقه في الدين، فبدونه تنفلت الأمور من عقالها وتعظم المصائب؛ فمهما تقدم الناس في تحصيل العلوم الكونية؛ فهي وحدها دون رقابة شرعية تهدم المجتمع ولا تبنيه؛ لأن أهلها يؤمنون بأن البقاء للأقوى وليس للأصلح، ومن يشكك في ذلك فليبحث في التاريخ كيف اشتعلت حروب الإبادة؟ ومن أين انطلقت؟ ومن استعمل الأسلحة النووية؟ ولأي غرض تم ذلك؟ فأين اختفت قيمهم الإنسانية حينما قتلوا الملايين من الناس لأسباب واهية؟
بتحقيق تنزيل الشريعة على واقع الناس وتوجيهه نحو الخير؛ وفق ما تسمح به قواعدها المرنة، ومقاصدها المستوعبة؛ فالتفقه السليم في الدين يضمن للأمة الحكم الشرعي الصحيح الذي يساير واقع الناس، وينبذ كل واقع منحرف غريب عن شريعتنا يستهدف غزو هويتنا وحضارتنا.
فوظيفة الفقيه المتقي والمستقل بناء الواقع السليم، وهدم الواقع السقيم بالحكمة، وهذا ما يفيده قوله : «ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله».
بتطهير البلاد من الفساد؛ فالطبيب، والمهندس، والتاجر، والمدرس، والسياسي، إذا كان متفقها بقدر ما يعرف به ما علم من الدين بالضرورة، وبقدر ما يعرف به حكم الله في طبيعة عمله؛ فإنه سيحصل فيه قدر من الخير وسيتوقف ولا شك عند هذه الأحكام، ويعمل وفق قيمها ومقاصدها، ولن يقدم مصالحه الخاصة على حساب مصالح العامة؛ لأنه يعلم حكم الله في ذلك. هذه الاستقامة التامة لم تتحقق في واقعنا تحققا تاما وشاملا؛ لأننا تعلمنا في مدارس الغرب، ووفق برامجه ومناهجه التي تركز على ضمان سيطرته وتقوية نفوذه، فصرنا عالة عليهم نعيش تحت رحمتهم التشريعية والاقتصادية، والصناعية، والخدماتية…
ذ. محمد البخاري
(يتبع)
===================
1 – فتح الباري، ابن حجر، ج1، ص:164
2 – شرح مسلم، النووي، ج7 ص128.