قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى، حدثنا إسماعيل بن هشام عن بعض أصحاب فتح الموصلي قال: “دخلت عليه يوما وقد مد كفيه يبكي حتى رأيت الدموع من بين أصابعه تنحدر، فدنوت منه لأنظر إليه، فإذا دموعه قد خالطها صفرة، فقلت: بالله يا فتح، بكيت الدم؟”
فقال: لولا أنك حلفتني بالله ما أخبرتك، بكيت دما. فقلت: على ماذا بكيت الدموع؟ وعلى ماذا بكيت الدم؟ فقال: بكيت الدموع على تخلفي عن واجب حق الله، وبكيت الدم على الدموع خوفا أن يكون ما صحت لي الدموع. قال الرجل: فرأيت فتحا بعد موته في المنام، فقلت: ما صنع الله بك؟ فقال: غفر لي. فقلت: ما صنع بالدموع؟ فقال: قربني ربي ، وقال لي: يا فتح ما أردت بهذا كله، وعزتي لقد صعد إلي حافظاك أربعين سنة بصحيفة ما فيها خطيئة. (عيون الحكايات لأبي الفرج ابن الجوزي).
سبحان الله ما أزكاها من نفوس!! وما أرقها من قلوب!!
جمعت عملا صالحا وخوفا يفتت الأكباد. وهذا شأن السالك الصادق، اجتهاد في طاعة الله آناء الليل وأطراف النهار، وخوف ألا يقبل الله تعالى منهم، قال جل في علاه: كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون(الذاريات: 17) باتوا لربهم قياما ثم استغفروه بالأسحار خشية أن يكون خالط قيامهم رياء أو حظ من حظوظ النفس، ولما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله عن قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُوتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ(المؤمنون: 60) أهم الذين يشربون الخمر، ويسرقون؟ قال: لا، يا بنت الصديق، هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات (رواه الترمذي).
فتأمل رحمك الله كيف كان حال القوم لتدرك عظم الخسارة، وتندم على ما فات من أعوام في الغفلة والبطالة، لعلك تشحذ الهمة وتشد العزم عسى أن تلحق بالقوم، فمن سار على الدرب وصل، وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا(النساء: 100).
فاللهم اسلك بنا سبل الوصول إليك، ودلنا على أقرب الطرق للورود عليك، وارزقنا الصدق في طلب وجهك الكريم.آمين
ذ. منير مغراوي