تناول الأستاذ المرحموم في الحلقات السابقة مفهوم الحمد التعبدي ومقتضياته وتجلياته، وبيّن أنه أساس العبادة وفي هذه الحلقة يواصل حديثه عن الحمد وأهميته في إصلاح النفس وتزكيتها إذا قام على شروطه وانطلق من أسس الشرع، وقام على العلم بالله والإخلاص له
الحمد أعلى درجات العبودية
فالحمد إذن يدل على العبودية الاختيارية، وهى أرفع درجات العبودية، يعنى أن العبد يكون في أفضل حال عندما يختار أن يشكر الله ويثني عليه، فيكون عابدا لله اختيارا، وهذا ما يحبه ربنا منا: يريد منا سبحانه وتعالى أن نقرر عبادته ونختارها، أما العبودية القهرية فهي دون اختيار، هل تستطيع أن توقف جريان الدم في شرايينك وعروقك؟ طبعا لا، هذه عبودية قهرية، هل تستطيع أن تغير لون جلدك؟ هلتستطيع أن تغير من عمرك؟ هل تستطيع أن تغير من تاريخ ولادتك وسنة وفاتك؟ فنحن عباد لله وعبيد له قهرا بهذا المعنى. ولذلك فربنا عز وجل يريد أن يقول لنا أن هذه العبودية القهرية يستوي فيها المسلم والكافر، وهو يريد منا العبودية الاختيارية {قَـالَـتَـا أَتـَيـْنَا طَائـِعـِيـنْ}(فصلت 10)، فحينما تختار أن تعبد الله بهذا المعنى فأنت حامد لله، لا يمكنك أن تكون حامدا وأنت لا تعرف ربك، لا تعرفه بمعنى أنك لا تشعر بهذه المعاني، وهناك فرق كبير بين القول والمعرفة، بين أنك تقول الشيء وتعتقده ذهنا وبين أنك تعرفه، فلكي نحمد الله حق الحمد نحتاج إلى معرفته، ومعرة الله لا تحصل إلا بالتقرب منه ومعرفة نعمه و أفضاله {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}(العلق 20)؛وفي الحديث: ((وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضه عليه))(9)؛ إلى آخر معاني القرب، فحينما تقترب من ربك وجدانا فإنك تعرفه، وبقدرقربك منه جل وعلا بقدر معرفتك، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فحين تعرفه سبحانه وتعالى ستجد حينئذ أنك تحمده حقا وصدقا، وتجد اللذة في حمده وفى الثناء عليه وشكره.
الحمد التعبدي في أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم كلما خطب سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام الناس قال: إن الحمد لله، هذه هي الكلمة الأولى التي كان يبدأ بها صلى الله عليه وسلم((إن الحمد لله نحمده))(10) ثم يؤسس عليها المعاني الآتية ((ونستعينه ونستغفره..)) إلى آخر ما هو معروف في خطبة الحاجة، وكثير من أعمال النبي صلى الله عليه وسلم تبدأ بالحمد لفظا أو معنى أو هما معا، صلوات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تُبتدأ بدعاء الاستفتاح، ومداره على الحمد، وحينما يرفع من الركوع، يحمد الله عز وجل ويفصل ويستطرد في الثناء عليه ((ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهلالثناء والمجد))(11) هذه من عبارات الحمد العجيبة، يعنى: أنت يا رب سبحانك جدير وحقيق أن تحمد، لأن صفاتك وأفعالك سبحانك تستحق أن تحمد “أهل الثناء والمجد” إلى آخر الحديث. وفي دعاء الحاجة أوصى النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الحاجة أن يصلي ركعتين، ويقول في نهاية الركعتين: ((لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم ،الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك…))(12) فجاء الدعاء بعد الثناء والحمد، يبتدئ الداعي بالثناء على الله بما هو أهله وبحمده ثم يبدأ الدعاء: “أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك..” إلى آخر الحديث. لا تكاد تجد دعاء من أدعية الرسول عليه الصلاة والسلام إلا وقرنها بالحمد أو سبقها أو لحقها وختمها، لأن الحامد هو العابد، والعابد الحقيقي لا يكون إلا حامدا، عندما تشعر باللذة في العبادة، وبالرغبة في عبوديتك لله، فذلك هو عين الحمد، وليس عبثا أنه جعل لنا فريضة أننا نحمد الله عز وجل في صلاتنا سبعة عشر مرة على الأقل، دون عد سنتي الفجر و الوتر، وما يسر لك من نافلة بعد هذا وذاك.
الحمد لله رب العالمين هي أول لفظة في القرآن، بها يبدأ كتاب الله عز وجل، والقرآن كله من أوله إلى آخره يرجع إلى معنى الحمد، والشرائع التي شرعها الله لنا بتفاصيلها وأحكامها التي يعيش بها المؤمن، والأحكام الخمسة التي هي قانون السير والعلامات التي تبين له الطريق، والتي هي: الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام، عندما يحتكم إليها المؤمن ويلتزم بها، فمعنى ذلك أنه يستجيب للحمد، ويحمد الله حقيقة، أما الذي يردد ذلك لفظا بالآلاف، يقول ألف مرة “الحمد لله”، وفعاله على عكس الطريق تماما، فهذا يستهزئ بربه-نعوذ بالله من ذلك- والذي يستهزئ بربه إنما يستهزئ بنفسه.
أول شروط الحمد العلم بالله ومعرفته حقا
خير لك أيها المؤمن أن تبحث عن معرفة ربك، فخطوة واحدة في معرفة الله عز وجل، خير لك من عشرات بل من آلاف الكلام الذي تردده على شفتيك بلا جدوى وبلا معنى، وعندما تعرف الله حقا ، فكلمة واحدة تخرج من فمك تكون أثقل من جبل في الميزان، لأنها حينئذ تنبع من إحساس ومن معرفة، لأنك تعرف ما تقول، وتعرف مقصد كلامك ووجهته، ولذلك فضل الله عز وجل العالم به على الجاهل {إنمَّاَ يَخْشَى اللهَ َمِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(فاطر28)؛ فالعلماء هنا ليسوا علماء المعلومات، الحافظين لكثير من الأشياء، وليس الحديث في الآية عن أولئك العلماء الذين ينصرف الفكر إليهم عند ذكر لفظ العلماء، والدليل على ذلك أن الواقع يكذب هذا التأويل وهذا التفسير، فكم من الناس عنده الأطنان من المعلومات في رأسه، وهو رأس الفسَّاق والفجار، كيف لم يخش الله عز وجل؟ باختصار: هذا ليس من العلماء {إنمَّاَ يَخْشَى اللهَ َمِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} به سبحانه وتعالى، العارفون لقدره سبحانه وتعالى، وكم من واحد عنده بضاعة مزجاة من العلم وقليل من المعلومات، وهو يكفيه في طريقه إلى الله عز وجل، وبه يستضيء لمعرفة ربه، وباب المعرفة بالله الوحيد بل الأوحد الذي لا ثاني له: هو كتابه سبحانه وتعالى “القرآن” فهو كلامه جل وعلا، قد يرد ببالنا: السنة؟ نعم، ولكن عندما نتكلم عن المعرفة بالله؟ نقول: القرآن، لأن القرآن صدر عن الله عز وجل، والسنة تبيان. فهي تبين لك كيف تسير وكيف تهتدي في القرآن، فالقرآن الكريم مثل بحر كبير جدا -ولله المثل الأعلى-وإذا لم يكن أمامك في البحر قائد ومعلم يعرف أماكن التيارات الخطيرة والأمواج العاتية والصخور وغيرها.. قائد له خبرة بالطريق، سلكها من قبل ، فأنت تتبعه وتسير على هديه حتى لا تصطدم بحجر، وحتى لا تزيغ في الفهم عن الله، إذا لم يكن لك ذلك القائد فإنك لن تستطيع عبور البحر والوصول إلى الشاطئ الآخر، ولذلك جعل الله لنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم
هاديا إليه سبحانه وتعالى، وسراجا منيرا، في ظلمات الصحراء يريك الطريق، وإلا فالصحراء أرض متشابهة كلها رمال لا تميز جهة عن أخرى، وتندرس معالم الطريق فيها بسبب الريح ولا يبقى لها أثر ، ومن هنا كانت السنة ضرورية، لكن لم؟ للسير عبر مسلك القرآن. كثير من الناس يقع لهم انشراخ في الدماغ، عندما يتمسك بالسنة وينسى القرآن، هذا لم يمسك شيئا مع الأسف، لأنك إذا فصلت السنة عن القرآن ستضل، ولن تصل، لأن القرآن مجمل لا يتضمن التفاصيل والأعمال التطبيقية اليومية الجزئية، الله عز وجل في القرآن الكريم قال لك : {وَأَقِيموا الصَّلاَةَ}(البقرة42)؛ لن تجد في كتاب الله التفاصيل:كيف تركع، وكيف تسجد، وأذكار الصلوات: أصولها وفروعها، ولا كيف تصوم، ولا كيف تحج… السنة تبين لك الهيئة والكيفية، ولكن القرآن هو الطريق إلى الله عز وجل، الطريقإلى الله المضمون العواقب، وحينما تستهدي بمحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وتجعله أمامك شيخا لك حقا وصدقا، فأنت واصل بإذن الله عز وجل.
الحمد التعبدي إصلاح وتربية ونقلة إلى الخير
نعود إلى ما بدأنا منه: إن أول درجات الانطلاق إلى الله عز وجل هو الحمد، ولأجل ذلك ذكرنا الحمد، ليس لذكر المعاني فحسب، ولكن للعمل، فما نسمعه اليوم وغدا وبعد غد سيكون حجة علينا يوم القيامة، ينبغي أن نقرر اللحظة التاريخية التي نُبَدِّلُ فيها حياتنا أنا وأنت وهذا وذاك، نبدل فيها حياتنا من شارد عن باب الله عز وجل إلى طارق لباب الله، فرق كبير بين من يدق أبواب التوبة والاستغفار، أبواب الرضا الرباني كل يوم، وبين من أعرض عن الدين، وسلك مسالك الشيطان. والفتنة طبقات: هناك من تمسكه باستمرار، وهناك من تمسكه وترسله، يجب أن تقاطعها ويجب أن تحاربها، يجب أن تخاف الفِتَنُ منك كما كانت تخاف من الصحابةالكرام، لكي تستطيع أن تقدم على هذه الخطوة التاريخية في حياتك، قرر أن تحمد الله، هذه هي البداية، هكذا بدأ آدم، وهكذا بدأ الأنبياء، وهكذا بدأ سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. في الحديث الصحيح أنه لما خلق الله سبحانه وتعالى آدم عليه الصلاة والسلام، وتركه ما شاء الله طينا، تأمل الطين يتحول شرايين من دم، الجماد يتحول إلى حياة {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونْ}(الصافات 12)؛ الله عز وجل يخاطب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في سياق الخلق {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ}(الصافات 11)؛ لازب: أي يلتصق، فكأنه قال له: انظر كيف يتحول الإنسان الطين الجامد إلى حياة: عجيب؛ ولذلك قال: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونْ}(الصافات 12)؛ نعم المؤمن يعجب فعلا من أمر الله؛ صحيح أن الملائكة قالت لامرأة إبراهيم: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ امْرِ اللهِ}(هود 72)، ولكن المؤمن يعرف بأن القدرة لله، ولكن الكفار “وَيَسْخَرُونْ”؛ فإذا عجب المؤمن من ذلك، وحق للمؤمن أن يعجب من أمر الله، لأن أمر الله عجيب، حينئذ لا يسعه -المؤمن المخلوق- إلا الحمد، ولذلك لما نفخ الله الروح في آدم عطس، في رواية قال آدم:”الحمد لله رب العالمين” فكانت أول كلمة نطق بها هي “الحمد لله رب العالمين”(13). وفي رواية أخرى أيضا -والحديث صحيح- أن الملائكة هي التي أمرته بالحمد فلبى فدعت له وقالت له : “الحمد لله”، قالت له الملائكة: يرحمك الله ، فصارت لنا سنة، لماذا نقول: الحمد لله ويقال لنا: يرحمك الله، لأنها تذكرنا دائما لحظة الولادة من العدم إلى الوجود، هذه بداية الإنسان، وبداية كل شيء، وهي بداية العبادة من سيدنا آدم إلى سيدنا محمد عليهم الصلاة والسلام، من أراد أن يبني نفسه بالإيمان، يضع الأساس الأول، وهو الحمد. والقرآن أنزل ليبني الإنسان، لكن مشكلتنا نحن المسلمين أن أجزاءنا متهدمة، الكفار تهدموا تماما، أقصد الوجدان الديني للكافر متهدم، لا يوجد أصلا، أما المسلم فقد تهدم من بنائه جزء، ولذلك وجب أن نعيد بناء أنفسنا من جديد، الكفيل بهذا البناء هو القرآن الكريم، فلنرجع للقرآن الكريم الذي جاء لبناء النفس وبناء المجتمع.
> د. فــريــد الأنـصـاري رحمه الله تعالى
—–
9 – عن أبي هريرة رضي الله عنه
، والحديث في صحيح البخاري صفحة أو رقم 6502، ونصه : إن الله قال :” من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته : كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته”.
10 – عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة صفحة أو رقم 1547.
11 – عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
، والحديث في صحيح مسلم صفحة أو رقم 477.
12 – ضعيف، وانظر ضعيف الجامع صفحة أو رقم 5809 .
13 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه
، والحديث في السلسلة الصحيحة، صفحة أو رقم 2159 ، وقال فيه الشيخ الألباني : صحيح على شرط مسلم، ونصه: ” لما نفخ الله في آدم الروح ، فبلغ الروح رأسه عطس ، فقال : الحمد لله رب العالمين ، فقال له تبارك و تعالى : يرحمك الله.