السياسة الشرعية هي فقه تدبير الشؤون العامة للأمة على هدي القرآن والسنة، وإقامة العمران على أساس من العدل والإحسان، ورعاية الدين ومصالح العباد على شرط جلب الخير والصلاح ودفع الشر والفساد.
إن معضلة السياسة الشرعية في بلداننا الإسلامية تنوعت مظاهرها وتفرعت مناكرها: ولعل من أبرز ذلك:
- فصل السياسة عن الدين، وفصل السياسة المدنية عن السياسة الشرعية، وتحريم تحكيم الشريعة في الشؤون العامة للخليقة. ولم يعد للدين حضور في تدبير شؤون المجتمع وقضاياه إلا في مجالات محصورة هي بدورها مهددة بالزوال, وكم جر هذا الداء العضال على الأمة من الوبال!! وكم أحدث فيها من الضعف والهزال!!
- تضخم “برامج” الأحزاب السياسية والجمعيات الاجتماعية ومؤسسات الدولة بالمطالب المادية للإنسان والسكان مع خلو تام من البرامج الجامعة للمعضلات الكبرى في الأمة تشخيصا للأسباب والمظاهر واقتراحا للحلول الواقية من كل الشرور والمخاطر. وقد نتج عن هذا جملة الاختلالات والأمراض على رأسها:
إلهاء الأمة بالجزئيات وإشغالها بالماديات، وإغراقها في الدنيويات.
التضييق على الأخيار بأنواع من التضييق الذي تعددت ألوانه وتكاثرت أفنانه من قدح في الكرامة والتشهير به و المبالغة في الإشاعة، وقلب المفاخر والمآثر إلى جرائم وجرائر، والتواطؤ على تخويف العامة وجميع الساسة من وصول هؤلاء الأخيار لسدة الحكم والرياسة.
وضع الأمة أمام خيارين أحلاهما مر هما الاختيار بين فاسد أو جاحد.
- التهافت على تولي المناصب والتسابق للحصول على أعلى الأجور والرواتب والتذرع لذلك بشتى الذرائع السياسية والعلل ولو كانت حراما في كل الشرائع والملل.
وقد نتج عن هذا الداء الوباء:
تولية المسؤولية لكثير ممن لم تتوفر فيه شروط الرياسة، ودفع الناس بقوة الآلة الإعلامية لِعَدِّهم من الأخيار!!
انتشار ظواهر التزوير والارتشاء، والنصب والاحتيال، والظلم والجور، وسوء تدبير المال العام، والتطبيع مع الواقع الفاسد، وانتشار روح الهزيمة ، وضعف الهمة والعزيمة في إصلاح الواقع على أسس قويمة.
إن هذه الاختلالات لتستدعي من الأمة التعجيل بإقامة سياستها على قواعد السياسة الشرعية ومقاصدها المرعية وأبرز تلك القواعد الجامعة:
- لا سياسة نافعة لعموم الأمة دافعة عنها كل بلية ونقمة وجالبة لها كل خير ونعمة إلا سياسة توازن بين رعاية حقوق الله وحقوق العباد، وتُقِيمُ حياة العباد على ما أمر به رب العباد ورضيه لهم من الهدي والرشاد، ومن ثم فكل دعوى أو دعوة لفصل الدين عن الدولة والحياة إنما هي دعوى باطلة ودعوة سافلة آفلة، وينبني على هذا أيضا أن كل من أغرق البلاد والعباد في شعارات دنيوية زائفة ومطالب آنية وذاتية وسعى في تعميق فرقة الأمة وفصلها عن جذورها فهو أبعد ما يكون عن السياسة الشرعية: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فصلت: 33).
- كل سياسة خرجت عن مقتضى العدل إلى الجور، ومن الفضيلة إلى الرذيلة، ومن حفظ الأمن إلى الفتْن، فليست من السياسة الشرعية في شيء، لأن مقتضى السياسة الشرعية هو تحقيق العدل وحفظ الأمن؛ فلا حياة لأمة لا أمن فيها، ولا أمن لها إذا لم تُقِمْ أركان العدل في نفوس بنيها؛ قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل: 90).
- تولية المناصب مشروط بأهلية علمية وخلقية معتبرة شرعا وعقلا: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم (يوسف:55) فالأمانة والعلم من الشروط الأمهات، ولا يستحق الولاية إلا من استوفى الشرطين السابقين وأقامهما حق الإقامة واستقام عليهما حق الاستقامة واهتم بالدعوة إليهما والتربية عليهما.
- رشد السياسة الشرعية في الأمة لا يكون إلا يوم ترتوي مقرراتنا التعليمة وبرامجنا الإعلامية وثقافتنا الاجتماعية إلى حد الامتلاء بتربية إسلامية سليمة يُرى أثرها في جميع القطاعات والتخصصات، وبتعليم يجمع بين فقه الدين وفقه الواقع كي يخرج إنسانا ناجحا في تدبير المعاش والمعاد، ونافعا للبلاد والعباد.
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (يوسف: 108).