ينتقل إلى دار البقاء بعد حياة حافلة بالعلم والعطاء
عن عمر يناهز 86 سنة توفي يوم الأربعاء 27 ذي القعدة 1437هـ الموافق 31غشت 2016م العلامة سيدي محمد بن حماد الصقلي العالم الكفيف وأحد أبرز وجوه العلم الذين أنجبهم المغرب وتخرجوا من رحاب جامع القرويين العتيد.
والفقيد من مواليد حومة القطانين بفاس سنة 1349هـ / 1930 م.
فقد بصره وهو لا يزال في سن السابعة من عمره، وأتم حفظ القرآن الكريم في سن الحادية عشرة.
ثم ولج الطور الابتدائي بمدرسة ابن غازي الحرة.
بعدها التحق بجامع القرويين بسلك الثانوي لطلب العلوم التي كانت تدرس بالجامع: علوم اللغة (نحو وبلاغة)، وعلوم الوحي: من تفسير وعلومه وحديث وعلومه وسيرة، وعلم العقيدة والمنطق والفقه وأصوله والفرائض، وغيرها من العلوم العقلية والنقلية التي أتقن الفقيد مبادئها ومسائلها وحفظ كثيرا من متونها خاصة متن الجزرية، والأجرومية وألفية ابن مالك و لامية الأفعال، والبيقونية في مصطلح الحديث وبعضا من متن الشيخ خليل.
وقد درس الفقيد على شيوخ وعلماء أجلة منهم سيدي محمد التدلاوي (حفظ القرآن الكريم)، والعلامة العربي الشامي، والعلامة محمد بن إبراهيم، والعلامة محمد بن عبد السلام كنون، والعلامة محمد بن عبد القادر الصقلي.
وقد كان الفقيد رغم فقد بصره يسابق أقرانه ويبزهم في حفظ المتون ودقة الفهم ورجاحة العقل، وظل كذلك حتى حصل على العالمية.
التحق بدار الحديث الحسنية بالرباط، حيث تابع دراساته العليا على يد كبار مفكري المغرب مثل علال الفاسي ومحمد الناصر الكتاني.
مهام ووظائف:
بعد تخرجه رحمه الله تعالى اشتغل بالتدريس.
مارس الخطابة لمدة طويلة حيث عين خطيبا بمسجد الديوان بفاس القديمة بظهير من الملك المغفور محمد الخامس.
شغل منصب أستاذ في دار الحديث الحسنية بالرباط، وفي كلية الشريعة بفاس، وبجامع القرويين حيث درس به الحديث، والتفسير والفقه بالمختصر، وغير ذلك.
أنشطة وإسهامات:
سافر إلى فرنسا لتعلم طريقة برايل وإدخاله إلى المغرب، وخاصة إلى مدينة فاس.
أسهم بعد عودته مع ثلة من أبناء جيله من المكفوفين والغيورين في تأسيس مؤسسة محمد الخامس لإنقاذ الضرير بفاس، والإشراف عليها
له محاضرات في أصول الفقه
له أشعار ونظم في السيرة منها: “الدين والنبوية وحاجة البشر إليهما”.
له تفسير لسور من القرآن (سورة آل عمران وسورة المجادلة) مع مقدمة سماها “مجالات التبيين عند خاتم المرسلين”.
له شرح على ألفية السيوطي في علم الحديث ومصطلحه.
أسهم في برامج إذاعية وتلفزية عديدة منها برنامج “نصوص وهوامش” على أمواج إذاعة فاس، وبرنامج ركن المفتي على شاشة التلفزة.
شارك مرات عديدة في الدروس الحسنية بحضرة الملك الحسن الثاني رحمه الله تعالى.
جوائز ومكافآت:
تقديرا لجهوده العلمية واعترافا بخدماته الاجتماعية فقد نال الفقيد عدة جوائز وأوسمة منها:
وسام الكفاءة الفكرية الذي أنعم عليه به السلطان محمد الخامس رحمه الله تعالى.
وسام العرش من درجة فارس وشحه به الملك الراحل الحسن الثاني
بوسام العرش من درجة ضابط من قبل الملك محمد السادس.
شهادات في حقه:
كان العلامة سيدي محمد بن حماد رجلا يتمتع بخصال علمية وخلقية جعلت منه محط احترام وتقدير، وكل أبناء جيله من شيوخه وزملائه وطلبته يقدرون فيه اجتهاده العلمي وحبه للخير وحبه للوطن وتضحياته، وقد حلته الرسالة الملكية بأنه “أحد علماء القرويين الكبار، المشهود له بالخلق الحميد، وبالغيرة الوطنية الصادقة، وبالتشبث الراسخ بثوابت الأمة ومقدساتها، فضلا عما أبان عنه كفقيه وازن من اجتهادات في أصول الفقه وتفسير القرآن الكريم، وإفادات هامة من خلال مشاركته في الدروس الحسنية الرمضانية، والبرامج الدينية، وما قدمه من مساعدة للمكفوفين للإلمام بالدين الإسلامي الحنيف وشؤونه”.
وفي هذا السياق استطلعت جريدة المحجة رأي كثير من الأساتذة في حق المرحوم ومنهم العلامة عبد الحي عمور رئيس المجلس العلمي المحلي بفاس الذي عد الفقيد “علما من أعلام هذه الأمة، وعالما من كبار علمائها، وخاصة في بعض العلوم التي درس فيها كالفقه، والسيرة، والشمائل. مضيفا “ولهذا فنحن نعتبر هذا اليوم الذي فقدنا فيه الأستاذ الجليل، فقدنا مصباحا من مصابيح الهداية، باعتبار أن العلماء هم مصابيح الأمة، وهم مرجعها، وهم سبيلها في هذه الدنيا في المعاش وفي المعاد”
أما الدكتور امحمد العمراوي رئيس جمعية خريجي القرويين وأحد طلبة الفقيد فقال “كان من العلماء الأفذاذ كان من العلماء الربانيين الراسخين، تودع القرويين اليوم سارية من سواريها، أساسا من أسسها، قاعدة من قواعدها، إنه شيخنا العلامة الجليل، الشريف الأصيل، الإمام العلامة الهمام،”.
….. وأضاف قائلا: “لقد كان هذا الرجل رحمه الله نظيف اللسان طاهر الجنان ما سمعنا منه يوما أنه يغتاب أحدا ما سمعناه يوما في بيته ولا في القرويين يتحدث في الناس ولا يتكلم فيهم ولا ينقص من أقدارهم أبدا، كيف وهو الرجل الذي اختار أن يختم سيرة المصطفى تأليفا وتدريسا وخلقا وتربية، لقد كان نعم المربي وكان نعم الوالد وكان نعم المعلم…”
أما الدكتور موحى أوالسو (كلية الشريعة بفاس) فقد اعتبر الفقيد “العلم العلامة البارز المشهود له بالكفاءة العلمية في فنون مختلفة وعلوم متعددة” مشيدا ب”دقة استنباطاته وفرائده في دروسه، وقوة استحضاره وقوة ذاكرته، وبحسن اطلاعه وموسوعيته فيكل الفنون والعلوم التي درسها”؛ مضيفا أنه “عرف رحمه الله بالأخلاق الطيبة، وعرف كذلك بالإيمان القوي والإخلاص والمحبة الراسخة لسيرة المصطفى “.
واختتم الدكتور شهادته بأن العلامة الصقلي كان “العالم الجامع لأشتات العلوم وفق النموذج المغربي المعروف بالموسوعية العامة في فنون مختلفة هذا النموذج الذي نفقده اليوم نموذج فريد. نقول إنه فريد بما تحمله الكلمة من معنى فكلمة العالم بمعنى الجامع للعلوم الشرعية المتكاملة فيما بينها نفقد اليوم عالما من الأعلام المعروفين بهذا النهج العلمي الفريد”
أما الأستاذ عبد المجيد المرضي إمام مسجد القرويين العامر وأحد طلبة الفقيد فقال في حقه: “أنه كان علما من الأعلام العظام الذين كرسوا حياتهم كلها من أجل نشر العلم والثقافة الإسلامية” ونبه إلى تميزه العلمي حيث “عرفته الجامعات المغربية محاضرا، وداعيا. عرفته الجامعات عالما، متميزا في تدقيقاته وتحقيقاته العلمية، متميزا في أخلاقه، متميزا أيضا في تواضعه. فقد كان الفقيد رحمه الله تعالى يجمع بين العلم والأخلاق والتواضع” كما أشاد بتميزه المنهجي في تناول تفسير كتاب الله تعالى منهج قائم على “التدقيق في أقوال المفسرين وتحقيقها ودقة المقارنات وحسن الاستنتاج”.
وفي الأخير يجدر الذكر أنه الفقيد دفن في مقبرة القباب بباب الفتوح بعد أن صلي عليه في مسجد جامع القرويين في جنازة مهيبة حضرها جم غفير من أهله وأصدقائه ومحبيه من الأساتذة والطلبة وعموم الناس. فرحم الله الفقيد رحمة واسعة.