يتجلى تكريم آدم عليه السلام في عدة أمور منها:
1- النفخ فيه من روح الله تعالى:
وقد مر بنا في حلقة سابقة أن آدم عليه السلام تكَوّن خَلْقُه من قبضة الطين ونفخة الروح. وقد كانت النظرة هناك إلى طبيعة الخلق. وهاهنا ننظر إلى ما وراء ذلك من التكريم.
وإن أول ما يلفت انتباهنا ونحن نتدبر الآيات، أن أمر الله تعالى للملائكة بالسجود إنما كان بعد تصويره وتسويته ونفخ الروح فيه.
وقال الله تعالى {هل اتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا} (الإنسان : 1)، وقد اختلف المفسرون في المقصود بالإنسان هنا هل هو آدم، أم بنوه، لأن الله تعالى قال بعد ذلك {إنا خلقنا الإنسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا}، وأيًّا كان ذلك، فإن مقصود الآية التنبيه على أن الإنسان كان في طي العدم، ثم انتقل منه ليس إلى مجرد الوجود فحسب؛ بل إلى وجود يميزه عن سائر المخلوقات.
وهذا المعنى متحقق في آدم حين سرت فيه الروح فصار خلقا آخر له شأن وذكر، ومتحقق في كل مولود من بني آدم، حين تسري فيه الروح وهو في بطن أمه بعد تحوله من نطفة أمشاج إلى علقة إلى ما بعد ذلك: {فجعلناه سميعا بصيرا}، {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار لعلكم تشكرون}(النحل 78).
فبالروح صار للإنسان ذكر في الأصل الأول ثم هو يذكر في كل فرع، في سلسلة من النعم المتناسلة من النعمة الأولى، وعلى هذه النعمة العظمى تأسست سائر النعم، لأنها فاصلة بين الوجود والعدم.
ولما كانت الروح باقية ولو بنزول الموت -لكونه لا يعني أكثر من خروج الروح من الجسد أي من الطين- فإن معنى ذلك أن الإنسان مخلوق للخلود.
إن الإنسان بعد نفخ الروح فيه قد استدرج بين جنبيه جملة هائلة من الطاقات العقلية والنفسية والوجدانية التي تؤهله لإعمار الأرض وتوظيف ما فيها، بناء على الهيئة التسخيرية للأرض وما له علاقة بالأرض.
2- إسجاد الملائكة له:
وهو من أعظم مظاهر التكريم، وهو الذي لم يملك إبليس نفسه أمامه حتى كشف بكل وقاحة ما كان دفينا في قلبه ووجدانه {قَالَ أَرايْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} فيفهم من قوله هذا حصول التكريم للمسجود له وتأكيد أفضليته على الساجد.
وكان إبليس قبل ذلك قد قال مجيبا مستغربا: {.. آسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} (الإسراء61-63) فوقف عند أصل الطين تجاهلا منه للأصل الثاني الشريف الذي جعل من آدم خلقا آخر.
قال الله تعالى {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُم أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (ص 68- 76).
وقال تعالى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (البقرة : 34).
وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}. (الأعراف : 11)/ وانظر (الإسراء 61- 63) و(الكهف : 50).
“إنه التكريم في أعلى صوره، لهذا المخلوق الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولكنه وُهِب من الأسرار ما يرفعه على الملائكة. لقد وُهِب سر المعرفة، كما وهب سر الإرادة المستقلة التي تختار الطريق .. إن ازدواج طبيعته، وقدرته على تحكيم إرادته في شق طريقه، واضطلاعه بأمانة الهداية إلى اللّه بمحاولته الخاصة.. إن هذا كله بعض أسرار تكريمه.”(في ظلال القرآن لسيد قطب).
وقد ارتبط ذكر الملائكة -وهي مخلوقات نورانية كريمة- بذكر قصة آدم -وهو هذا المخلوق العجيب المركب من الطين والروح-، في عدة أمور تدعو إلى التأمل في العلاقات بين المَلَك والآدمي، فمن ذلك:
1- أن الله تعالى أخبر ملائكته بخلق آدم وجعله خليفة في الأرض. ويفهم منه أن قدرا من العلاقة ستربط هذه المخلوقات الكريمة بهذا المخلوق المكرَّم.
2- أن الله تعالى أمرهم بالسجود له. وفيه ما فيه من الرمز إلى العناية بهذا المخلوق والسعي في مصالحه.
3- أن الله تعالى ميَّزه بالعلم -كما سيأتي- فوهبه من العلوم ما لم يهبه لهم، وكشف سبحانه ذلك لهم حتى يستشعروا القيمة الدافعة إلى الرعاية والاعتناء.
وقد كانت الملائكة الكرام عليها السلام في كل ذلك وقّافةً عند الحدود الإلهية، مُسرعة إلى الامتثال والطاعة، ساعية إلى المحافظة على صلاح الأرض، وهو بعض ما يفهم من قولها متعجبة في أدب جم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء….؟؟؟}.
والعلاقة بين الملائكة وذرية آدم مستمرة في الحياة وفي الموت وبعد الموت. فهي التي كانت تأتيهم بالوحي، وهي التي تصعد بالكلم الطيب والعمل الصالح، وهي التي تؤنسهم في مجالس الذكر والعلم، وهي التي تنفخ فيهم أرواحهم وتأخذها منهم، وهي التي تنصر المؤمنين منهم في معارك الحق، وهي التي تحشرهم في ساحة القيامة، وهي التي تستضيف السعداء في الجنان، وتقوم على الأشقياء في النار بألوان من الآلام والأهوال، وهي التي… وهي التي…
ومن أعظم ما يستفاد من المشاهد الشريفة التي التقى فيها آدم والملائكة في اقتراب شديد، أن آدم عاين أخلاق الملائكة وأحوالها أمام أمر الله عز وجل، فقد رأى بأم عينيه هذا النموذج الفريد المستغرق بالكلية في الطاعة والانقياد.
وقد جعل الله طبيعتها من الغيب لتكون له مددا وجندا يتقوى به على طبيعة أخرى من الغيب متمحضة للشر، وهي طبيعة إبليس.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه “أن رجلاً شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويبسم، فلما أَكْثَرَ رَدَّ عليه بعضَ قولِه، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله، كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبتَ وقمتَ؟ قال: إنه كان معك مَلََكٌ يَرُدُّ عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان”. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: “رواه أحمد، والطبراني في الأوسط بنحوه، ورجال أحمد رجال الصحيح”.
3- اجتباؤه واصطفاؤه:
ومن وجوه التكريم أن الله تعالى وهب لآدم القدرة على الإصلاح بعد الوقوع في الخطإ، وهذه قدرة مركوزة في فطرته، ثم زاد في تكريمه بأن اجتباه واصطفاه بالنبوة وزاده هدى يتقوى به على نفسه وعلى الشيطان، قال الله تعالى : {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَل ادُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (طه : 115- 122).
وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(آل عمران : 33- 34).
و”الاصطفاء تناول صفو الشيء كما أن الاختيار تناول خيره والاجتباء تناول جبايته” (المفردات للراغب).
وبالنظر إلى النص الأول فإن الاجتباء جاء بعد أن تاب الله تعالى على آدم مما صدر منه من المخالفة {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}. وهاهنا عِبَرٌ منها:
- أن الاجتباء جاء إثر التجربة المريرة التي تجلت فيها عداوة إبليس بصورة عملية. وهي تجربة استفاد منها آدم عليه السلام، ثم دُعِيت ذريتُه إلى الاستفادة منها، قال الله تعالى { يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ}(الأعراف : 27).
- أن الله تعالى تعَهَّد آدمَ بالنبوة والوحي وجعلها في المصطفين من ذريته حتى يبقى الإنسان على صلة بالسماء، فلا ينشدُّ إلى الطين بالكلية، ولا ينفرد به الشيطان انفرادا مطلقا.
فإن الوحي هو الذي أوقف الإنسان على الوسائل المناسبة لمقاومة الشيطان، وقد ألف العلماء في ذلك، وكان أشهرهم الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه: “إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان”.
وأما بالنظر إلى النص الثاني فإن ذكر اصطفاء آدم عليه السلام جاء في سياق تعداد أصول النبوات، فإن آدم هو أبو البشر على الإطلاق، وتلاه نوح وهو أبوهم الثاني، ثم آل إبراهيم وآل عمران، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (الحج : 77- 79).
وإن البدء بذكر آدم أبي البشر وهو نبي كريم، يدل على التكريم والتشريف له ولذريته، كما قال تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء : 70).
كما يدل على أن الأصل المتجذر في أعماق الكون وبداية تاريخ الإنسان هو الإيمان بالله الواحد سبحانه عز وجل، وأما الزيغ عن هذا الأصل فإنما جاء بسبب ابتعاد الذرية عنه شيئا فشيئا. وهذا مخالف تماما لما توهمه بعض فلاسفة الاجتماع من أن الإيمان بإله واحد هو مرحلة متأخرة في تطور الفكر البشري. تلك دعوى متهافتة تضاف إلى أختها الذاهبة في الوهم بقولها: إن الإنسان يرجع في بعض مراحل تطوره إلى قرد مشعر يقفز ويصرخ… فلينتسب إلى القرد من شاء أن ينتسب، أما نحن فإنا نفخر بانتسابنا إلى أبينا آدم النبي الكريم، ونُشهد الله تعالى أنا نؤمن به وبسائر أنبيائه الكرام، والحمد لله رب العالمين.
د. مصطفى فوضيل