نقرأ في أوائل سورة القلم المكية توجيها ربانيا حكيما، ينهى عن الاستجابة للمداهنات أو الخضوع للإغراءات أو الانقياد للمساومات، ما كان المرء على حق ينطلق من الحق والخير ويدعو إلى الحق والخير، كما هو حال الرسول الأكرم الذي نزلت عليه هذه الآية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
والناس في تلقي دعوات الخير والصلاح أصناف:
فمنهم العاقل المستنير المستجيب، وهذا قريب الفهم سريع الإدراك سابق إلى الخير فالتعامل معه يقوم على اللين والإبلاغ بالمعروف وتوضيح الأمور بما يقتضيه السياق من الحكمة والمرونة والتزويد بالمعارف المفيدة.
ومنهم المتردد الخائف الذي لا علم له أو لديه معلومات غير دقيقة وبه استعداد لحسن التلقي إن وجد الملقن الراشد والمبلغ البارع، فيحتاج إلى التصحيح والترسيخ وإظهار الحجة وإثبات الدليل لإزالة الريبة والشك من نفسه وإقناعه بما ينفي عنه التردد ويطمئنه إلى ما يدعى إليه فيستعمل معه منهج التأليف والترغيب والتيسير.
ومنهم المستكبر المعاند الذي يحارب الحق ويجافي الهدى ويتصلب فيما هو عليه من الضلال وقد يبذل مساومات أو يقوم بمحاولات للتصدي للخير ومقاومته أو يصل به الصلف إلى إذاية أهل الخير ودعاة الإصلاح؛ فهذا الصنف ينبغي مقاومة ميوله ومحاربة أهدافه فلا تنفع معه مراودة ولا يصلح له لين ولا تساهل، وإنما يستأهل إغلاظا في الحق وتصلبا في الرأي ومقارعة بكل ما يردع ويجدي في صرفه عن غيه وإفشال محاولاته وجلبه إلى الإحساس بالغلط ما دام يجافي الحق ويكابر ويتمادى في المغالطة والمساومة في الحق.
وليست هذه دعوة إلى العنف ولا إلى التشدد كما قد يتوهم، بل هي منهج رباني عملي سليم يقضي بمواجهة الصلف والاستكبار والغي بما يقوي المحقين ويثبّت أقدامهم ويرسخ الخير ويحميه من الدمار ويقضي بالمناسبللمحاوِر صاحب الحق والرشد، وللمحاوَر الزائغ عن الصواب الساعي لإهدار الحق وإضلال المهتدي.
ولقد كان الله عز وجل يعلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين المومنين على هدى، وأن مساوميه كانوا في ضلال، ومع ذلك عبر في مجادلتهم بما لا يصد أعداء الهدى أو يلهب عنادهم، من مثل قوله تعالى: {وإنا أو اياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، قل لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون}(سبأ : 24- 25)، أو قوله تعالى: {فستُبصِر ويُبصِرون بأيكم المفتون، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين}(لقلم : 5- 7). إنه يعلمنا كيف نتعامل في المنطلق وفي التحاور وفي النتائج مع المدعوين إلى الخير المخاطَبين بالبر والمعروف؛ لكن الذين يريدون أن يستميلوا الدعاة المصلحين والمفكرين الراشدين إلى التهاون والتخاذل والانزياح عن الحق، أو يجدّون في التصدي للخير وأهله والإصلاح ومريديه فلا طاعة لهم فيما يريدون {فلا تطع المكذبين}(القلم : 8)، وإن اقتضى الأمر الدخول معهم في المشادة فتلك هي النتيجة الحتمية لمواقفهم الرافضة المنغلقة ورغباتهم المتطلعة إلى تحويل أهل الحق إلى طريق الضلال، وما ذا بعد الحق إلا الضلال! والطاعة: قبول ما يُبتغَى عمله، والمراد بالطاعة -هنا- المصالحة والملاينة والمتابعة في الرأي والإجابة إلى ما يُطلب؛ فالدعاة والمصلحون عليهم أن لا يقبلوا ما يريده منهم المغرضون المنحرفون عن الحق، وألا يلينوا في مواقفهم، بل عليهم الاستمرار في المجاهدة والتمسك بمبادئهم ومنهجهم وإثبات جدارة ما يدعون إليه. ومثل هذا قوله تعالى في سورة أخرى: {فلا تطع الكافرين، وجاهدهم به جهادا كبيرا}(الفرقان : 52)؛ والنهي في الآيتين متجه إلى الإجابة إلى أي شيء يعرضه أهل العناد والاستكبار على الدعاة المصلحين من الإغراءات، فهو يعم كل إجابة لأي طلب منهم؛ وسبب هذا النهي أنهم يكذبون كل مقولات الخير بلا تفكير قويم، ويعادون الحق بلا منطق سليم.
لقد كان يسيء المشركين المعاندين من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المراحل الأولى للدعوة أن يحتقرهم بصفات الذم والكفر تماما كما يستاء الملاحدة اليوم ومن لا دين لهم والذين هم على غير دين الله من وصفهم بأنهم كافرون؛ وكان يسيء أولئك أن يحتقر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنامهم التي يعبدونها بلا تفكر ولا وعي، ويعيب آباءهم من جانب الكفر؛ وكانوا هم يسيئون إليه صلى الله عليه وسلم وإلى المومنين المسلمين بالقذف والشتم، ويؤذونهم بشتى أصناف الإذاية، فحاولوا، كما يحاول المغرضون اليوم، إغراء أهل الدعوة والإصلاح وفي مقدمتهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم بشتى الوسائل، عبّر القرآن الكريم عن هذا الإغراء بقوله تعالى: {ودوا لو تدهن فيدهنون}(القلم : 9) والفعل (تدهن) من الادهان بمعنى الملاينةوالمصانعة، أصله أن يجعل لشيء دُهنٌ إما لتليينه وإما لتلوينه؛ والفاء في الآية للعطف والسببية، وفيه جواب لمعنى التمني الذي يفيده الفعل (ودوا). وقد عرض الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره (12) قولا في معنى هذه الآية نلخصها فيما هو آت:
لو تكفر فيتمادون على كفرهم، لو ترخص لهم فيرخصون لك، لو تلين لهم فيلينون لك، لو تركن إليهم وتترك الحق فيمالئونك، لو تكذب فيكذبون، لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون، لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم، لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم، لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون، لو تضعف فيضعفون، لو تداهن في دينك فيداهنون في دينهم، لو تعبد آلهتهم مدة ويعبدون إلهك مدة.
والخلاصة أن المشركين كانوا يريدون أن يمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعوة فيمسكون عن أذاه بقولهم فيه إنه لمجنون أو بالتعرض له وللمومنين معه بالإذاية والتنكيل، ويتمنون أنيتخلى عن مجاهرتهم بالتضليل والتحقير، فيكفون هم عن الإذاية ويصانعهم ويصانعونه؛ لكن الدعوة لا تقبل هذه المساومة، فالحق أبلج والباطل لجلج، وما كان لصاحب حق أن يقبل المساومة في الحق، لاسيما حين يتعلق الأمر بالعقيدة والفكر والإصلاح العام لا بالمادة والحق الفردي أو المصلحة الشخصية.
المساومة فـي العقيدة والعبادة:
عرضوا عليه صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم يوما ويعبدون إلهه يوما في محاولة لتمييع الحق واستدراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى إقرار الشرك، أي إلى زعزعة العقيدة الراسخة، فأمره الحق سبحانه وتعالى بأن يستنكر ذلك ويثبت على عقيدته ومنهجه، فأنزل عليه سورة كاملة أُسميت سورة (الكافرون) دلالة على أن الإيمان والتوحيد شيء وأن الكفر والشرك شيء آخر مخالف تمام المخالفة لمقاصد الدعوة الراسخة ومنهج الدين الصحيح، لا مساومة في ذلك ولا توافق على غيره، لا يختص ذلك بزمانولا بمكان ولا بشخص معين: {قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين}.
عناد للحق واتهام بالباطل:
وحينما يعجز المكابرون عن استدراج أهل الصلاح والإصلاح ويظهر الحق جليا قويا، يجد المعاندون من أهل الباطل أنفسهم في حيرة وحرج، فيلجأون إلى كيل الأقاويل وترويج الأكاذيب التي تشوش على الدعوة وتحاول النيل من الدعاة وتشويه الفكر والمنهج والغاية، فاليقظة ضرورية والحزم مطلوب لمواجهة هذه المواقف المغرضة، وقد كان موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك مثالا حاسما أكده الوحي بالعبارة الصريحة الفاضحة للأكاذيب لما حان موسم الحج وخشي المكابرون أن يعلو الحق ويسلبوا مراكزهم وامتيازاتهم في القوم، فاجتمع نفر من أكابر المعاندين إلى أحد وجهائهم (الوليد بن المغيرة) فقال لهم: “ياقوم، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا.. قالوا: نقول كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن.. قالوا: فنقول مجنون. قال: ما هو بمجنون.. قالوا: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر.. قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر.. والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لغَدَق وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته”. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسُبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا له أمره. فأنزل الله عز وجل: {ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن ازيد كلا، إنه كان لآياتنا عنيدا، سأرهقه صعودا، إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يوثر إن هذا إلا قول البشر}(المدثر : 11- 25) هكذا يبدو أهل الباطل في اضطراب وحيرة وعماية، وهكذا دائما يحاولون إلقاء الغشاوة على الأعين وتضليل الرأي العام عن الرشد والخير والصواب، ولكن هل ينفع ذلك أمام قوة الحق وصلابته وصمود أهله وثباتهم وتماسكهم!؟
قد ينصر الحق بغــير أهله، ويقاومه من هو أولى به مَن مِن الناس لا يدرك مغزى دخول الناس في دين الله أسرابا، وفُشوّ ذكر الإسلام والتّحدّث به في المحافل الرسمية الدولية والفردية في المجتمعات والأندية العالمية المختلفة بعد ما عرف بحادث (11 سبتمبر) حتى أمسى اعتناق الإسلام من طرف الغربيين والأمريكيين في تزايد مطرد؟ فلقد كان الحدث نقمة إذ اتخذ ذريعة لكثير من السياسات الظالمة والسلوكات اللاإنسانية على مستويات عدة إقليمية محلية ودولية عالمية، ونشر المغرضون في الناس بعده أن الإسلام مخيف مرعب يقوم على العنف والقهر، وأن أهله (إرهابيون) !ولطالما دُعي هؤلاء المغرضون إلى عقد المؤتمرات والجلوس للتحاور بقصد تحديد مفهوم (الإرهاب) و(الإرهابي) فرفضوا وراوغوا وصبوا المفاهيم الخاطئة المبيتة على مصطلحات أرادوها لتحقيق غايات ماكرة بالشعوب المستضعفة، مكيدة لدعاة الإصلاح والخير وحسن التدين. فاحتلت بعض البلاد الإسلامية، وحورب الإسلام تحت ستار محاربة (الأصولية الإرهابية) و(الأصوليين المتطرفين) بكل القوى المادية والمعنوية الظاهرة والخفية، ورصدت لذلك الميزانيات الطائلة والمبالغ الباهظة، وجعجعت الخطب المحذرة والمتحاملة على الإسلام والمسلمين من مختلف الجهات من خارج العالم الإسلامي، وأحيانا من داخله ومن قبل من يحسبون على هذا الدين وهذه الأمة، فنصب البعض من هؤلاء نفسه للوصاية على الدين والجماعات الإسلامية ودعاة الإصلاح والترشيد، وناب بعضهم عن الآخرين في تضييق الخناق وإذاية المومنين والمومنات والوقوف في وجه الدعوة والدعاة! كل ذلك حدث بعد التطورات والوقائع الأخيرة التي تكالب العالم الغربي بعدها على الإسلام والمسلمين، ووجدوا من أبناء الأمة الإسلامية من يساعدهم أو يسد مسدهم في تحقيق مبتغياتهم، وكال له ولهم من التهم الملفقة ما يتبين بفرك بسيط زيفها وبطلانها ويتضح أنهم يتذرعون بها للكيد والمكر والاحتلال والحرب والدمار.
لكن حدث (11سبتمبر) كان في الوقت ذاته نعمة على العقلاء من أبناء الأمة الذين يتعظون ويعتبرون، وكان نعمة على كثير من غير المسلمين الذين انفتحوا للخير ودرسوا هذا الدين بجدية وانفتاح وموضوعية. ولقد أثبتت ذلك الإحصاءات والتقارير الدولية، وعلى سبيل المثال يُعلم من وسائل الإعلام والاتصال والتواصل المختلفة وعبر المواقع الإلكترونية أن في بريطانيا وحدها أسلم أكثر من مائة ألف مهتد بعد ذلك الحدث.
ليس على أهل الحق إذن إلا الاعتصام به والصلابة فيه والاستمرار في الدعوة إليه ونشره وتبليغه والله عز وجل يتولى عن المومنين تأييد الدين وهداية العباد وفتح الطريق أمام الدعوة التي تولى سبحانه وتعالى حفظها ما اجتهد الدعاة في القيام بواجبهم وأحسنوا استعمال الوسائل المتاحة لتبليغ دعوتهم وأخلصوا لله في سرهم وعلانيتهم. لقد كانت الدعوة الإسلامية في بداياتها وأمر الله عز وجل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يصدع بأمره ويجهر بالدعوة ويعممها، واستجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، فناكره القوم وعادوه وقاوموا أمر الله وواجهوا الدعوة بالكيد. حينئذ ناصر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عمُّه أبو طالب وهو على الكفر والشرك، ومنعه وقام دونه وهو صلى الله عليه وسلم ماض في أمره، فرأت قريش أن يكلم عمَّه أشرافُ القوم (عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، وأبو سفيان ابن حرب، وأبو جهل ابن هشام، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، و غيرهم من وجوه القوم) فقالوا له: “إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه..” فردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه؛ لكن الدين زاد انتشارا، وهم ازدادوا ضيقا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالدعوة، فمشوا إليه مرة أخرى فقالوا له: “ياأبا طالب، إن لك سناً وشرفاً ومنزلةً فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنته عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا.. حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين..” فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بأن يسلم لهم ابن أخيه ولا أن يخذله، فتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: “ياابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا.. فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق” فقال: ((ياعم، والله لو وضعوا الشمس فـي يميني والقمر فـي يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته)) ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى وقام وقد توقع أن يخذله عمه أو يتخلى عنه، فلما ولى ناداه عمه فقال: “اذهب ياابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا”. ثم مشى المشركون إلى أبي طالب بعُمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له: “ياأبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهدُ فتى في قريش وأجملُه، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم لنا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله فإنما هو رجل برجل”، فقال: “والله لبئس ما تسومونني! أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه!؟ هذا والله ما لا يكون أبدا!؛ ثم تذامرت قريش على من في القبائل من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم في دينهم. (الروض الأنف 6/2- 9 وغيره).
الحق ساطع والعناد غشاوة:
قد تنجلي الحقيقة ويفوح الخير وتسري في عروق الشعوب مقومات الرشد وعوامل الترقي، ولكن حينما يكون الزمام بأيد آثمة أو غير قادرة على حسن تصور الأمور وحسن تبين الوقائع وحسن تدبير الشأن العام فإن الموازين تختل ويحسبُ المرارة َ-من لا ذوق له- حلاوةً، فيحاول هؤلاء عبثا أن يعرقلوا مسيرة الخير أو يؤخروا وثبة الشعوب نحو الإصلاح والترقي، غير أن دعاة الحق وبناة الحضارة لا يعرفون الهوان ولا التواني ولا ينخدعون بالنظريات المختلة ولا ينساقون وراء أهواء المغرورين والمكابرين أو لمعان الوعود المنمقة وأطماع العروض المغرية، إنهم يظلون صامدين لا يداهنون ولا يجارون ولا يضعفون؛ ومهما تكالبت قوى الشر وطغت وتجبرت، أو أعينت ودعمت، فإنها في الأخير تنهار أمام جموح الإصلاح وسطوع الحق وثبات الرشد حتى يضطر الشر إما إلى الاندماج في منظومة الخير إن كان من العقلاء المهتدين السعداء، وإما إلى الهروب إن وجد له فرصة فرار أو مفرا يلجأ إليه إن قبل في بلاد من أرض الله، ويبقى الحق صامدا شامخا حتى يجد له التربة الصالحة فينبت ويزهر.
وتاريخ هذه الأمة الشامخة منذ منطلقها يؤكد ذلك بالحدث الواقع، فعندما أسلم حمزة ورأى الناس المسلمين يزدادون ويكثرون، عرفت قريش أن الدعوة الإسلامية قد عزت وامتنعت، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحى في عزة ومنعة، وأن عمه حمزة سينضم إلى أبي طالب في حماية ابن أخيهما محمد صلى الله عليه وسلم، فانعكفوا على أنفسهم وكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه، وفكروا في خطوة أخرى يخطونها لعلها تبلغهم القصد وتوقف هذا الزحف الدعوي الذي أذهلهم وأخافهم أن يزيد أمره تفاقما، وتولى ذلك عنهم عتبة بن ربيعة وكان واحدا من سادة القوم فقال لهم يوما وهو جالس في ناديهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: “يامعشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ فقالوا: بلى ياأبا الوليد”.
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “ياابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم وسفهت أحلامهم وعبت آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها”.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل يا أبا الوليد أَسمع)) قال: “ياابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رِئيا(مس من الجن) تراه لاتستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابعُ على الرجل حتى يداوَى منه”.
فلما فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال صلى الله عليه وسلم: ((أقد فرغت ياأبا الوليد؟)) قال: نعم. قال: ((فاسمع مني؟)) قال: “أفعل”، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءة سورة فصلت: {باسم الله الرحمن الرحيم حم، تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون، وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون..}(فصلت : 1…) ومضى يقرؤها عليه وهو يسمع منه وقد ألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة من السورة وذلك قوله تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون، فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون}(الآيتان : 36- 37) سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك)).
فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: “نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به!”. فلما جلس إليهم قالوا: “ما وراءك يا أبا الوليد؟” قال: “قد سمعتُ قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يَظهَرْ على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به، قالوا: “سحرك والله ياأبا الوليد بلسانه”. قال: “هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم”(الروض الأنف45/2- 46).
إن المستيقن من نفسه المقتنع بأحقيته ورشده وصواب أمره لا يمكن أن ينخدع بالوعود، ولا أن تأخذه الأطماع اللامعة أو تغريه العروض البراقة، ولا تخيفه التهديدات والإنذارات؛ إنه ينهج نهج الاعتدال في القول، والقوة في التعبير، والتواضع في الحوار، والاحتساب على الله في الابتلاء؛ ويجتنب منهج المداهنة والمداراة وأساليب الإكراه والإغراء والتهديد والتعنيف، إلا أن يرى من المخاطب ما يدل على الاستعلاء والاستكبار أو المداهنة والمراوغة، فالمنهج الأصلح الأنسب حينئذ هو عدم مجاراته في منهجه ورفض عروضه وإغراءاته والتمسك بالرأي وعدم طاعته فيما يريده.
د. رضوان بن شقرون