هذه أيها السادة هدية متواضعة، رأيت أنكم في حاجة ماسة إليها، خصوصا في هذه الأيام التي تعرف فيها الأمة تحولات كبيرة، شملت تغيير قادة والعمل على خلع آخرين، وإني على يقين أنها ستكون نافعة لمن تأملها جيدا، وفتح لها عقله وقلبه، إنها أيها السادة مواقف سجلها التاريخ بمداد الفخر والاعتزاز لحاكم مسلم، عرف ربه، وخدم رعيته، وقدر مسؤوليته، إنه الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله، هذا الذي كان يحكم الدنيا كلها طلب لحم جزور فأكل منه لقمة وبكى بسببها يوما كاملا، لأنه أدرك أنه بذر مال الأمة! وإليكم القصة كما ذكرها ابن كثير رحمه الله فقال(1): روى ابن عساكر عن إبراهيم المهدي قال كنت يوما عند الرشيد فدعا طباخه فقال أعندك في الطعام لحم جزور؟ قال: نعم، ألوان منه، فقال: أحضره مع الطعام، فلما وضع بين يديه أخذ لقمة منه فوضعها في فيه، فضحك جعفر البرمكي، فترك الرشيد مضغ اللقمة، وأقبل عليه فقال مم تضحك؟ قال: لا شئ يا أمير المؤمنين، ذكرتُ كلاما بيني وبين جاريتي البارحة، فقال له بحقي عليك لما أخبرتني به، قال: حتى تأكل هذه اللقمة، فألقاها مِن فيه وقال: والله لتخبرني، فقال: يا أمير المؤمنين بكم تقول إن هذا الطعام من لحم الجزور يقوم عليك؟ قال بأربعة دارهم، قال لا والله يا أمير المؤمنين، بل بأربعمائة ألف درهم، قال وكيف ذلك؟ قال إنك طلبت من طباخك لحم جزور قبل هذا اليوم بمدة طويلة فلم يوجد عنده، فقلتَ لا يخلونّ المطبخ من لحم جزور، فنحن ننحر كل يوم جزورا لأجل مطبخ أمير المؤمنين، لأنا لا نشتري من السوق لحم جزور، فصُرف في لحم الجزور من ذلك اليوم إلى هذا اليوم أربعمائة ألف درهم! ولم يطلب أمير المؤمنين لحم جزور إلا هذا اليوم، قال جعفر: فضحكت لأن أمير المؤمنين إنما ناله من ذلك هذه اللقمة فهي على أمير المؤمنين بأربعمئة ألف، قال فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا، وأمر برفع السماط من بين يديه، وأقبل على نفسه يوبخها ويقول: هلكتَ والله يا هارون! ولم يزل يبكي حتى آذنه المؤذنون بصلاة الظهر، فخرج فصلى بالناس، ثم رجع يبكي حتى آذنه المؤذنون بصلاة العصر، وقد أمر بألفي ألف تصرف إلى فقراء الحرمين، في كل حرم ألف ألف صدقة، وأمر بألفي ألف يتصدق بها في جانبي بغداد الغربي والشرقي، وبألف ألف يتصدق بها على فقراء الكوفة والبصرة، ثم خرج إلى صلاة العصر ثم رجع يبكي حتى صلى المغرب، ثم رجع فدخل عليه أبو يوسف القاضي فقال: ما شأنك يا أمير المؤمنين باكيا في هذا اليوم؟ فذكر أمره وما صرف من المال الجزيل لأجل شهوته وإنما ناله منها لقمة، فقال أبو يوسف لجعفر: هل كان ما تذبحونه من الجزور يفسد أو يأكله الناس؟ قال بل يأكله الناس، فقال أبشر يا أمير المؤمنين بثواب الله فيما صرفته من المال الذي أكله المسلمون في الأيام الماضية وبما يسره الله عليك من الصدقة وبما رزقك الله من خشيته وخوفه في هذا اليوم، وقد قال تعالى {ولمن خاف مقام ربه جنتان}(الرحمان : 45) فأمر له الرشيد بأربعمائة ألف، ثم استدعى بطعام فأكل منه، فكان غداؤه في هذا اليوم عشاءً!!
——-
1- انظر ترجمة هارون الرشيد في البداية والنهاية لابن كثير ابتداء من 10/ 577
ذ. امحمد العمراوي من علماء القرويين amraui@yahoo.fr