سنن الله هي قوانينه العامة المتعلقة بأفعال البشر وسلوكاتهم، وهى الطريقة المتبعة للبشر، وما يترتب عنها من نتائج معينة في الدنيا والآخرة ثوابا أو عقابا
والمتأمل في القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتوجيه الرباني لعباده يعلم أن الله جعل في الناس سننا وقوانين وعادات لا تتخلف تحكم سيرهم وأفعالهم ويترتب عنها جزاؤه فيهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ويعمل مثقال ذرة شرا يره}(الزلزلة : 9) وعلى هذا القانون من العمل رتب الجزاء ثوابا وعقابا.
وهذه السنن المتعلقة بالبشر قسمان: سنن الله في المجرمين والظالمين، وسننه في المهتدين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم المومنين والمصلحين.
النوع الأول : سـنـن الله فـي الـقـوم الـمجـرمـيـن والظـالـمـيـن :
وفي هذا النوع يقول تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}(آل عمران:137).
وفي الآية توجيه لنا بالتأمل في عمل القوم المكذبين وما آل إليه أمرهم من الهلاك والبوار والخسران المبين. ويكفي المسلم العاقل أن يتأمل المواطن التي ذكر فيها التكذيب والمكذبون في القرآن الكريم ليجد أن هذه الصفة ما ذكرت إلا في مواطن نفي الحقائق الناصعة والبراهين الساطعة: التكذيب بحقيقة وجود الله، وحقيقة الغيب، وحقيقة الرسالة والرسل، والتكليف، والبعث والنشور والحساب، والناظر أيضا في صفة التكذيب في القرآن الكريم يلحظ أنها ليست مجرد قول ينطق به اللسان وكفى وإنما هو قول واعتقاد وعمل لدى أصحابه به يؤمنون وعليه يعملون وبه ينظمون حياتهم، وإليه يدعون غيرهم، إن التكذيب بالله وبرسله وبأوليائه، وبأمره ونهيه ووعده ووعيده يولد كل أشكال الفساد في الأرض: كالكفر بالله، والنفاق، والظلم والاستكبار والعلو في الأرض وعلى الناس بغير حق، والبطش، والضلال والإضلال، والصدود عن الحق والصد عنه، والإغواء، وكل مظاهر الفحش السياسي والاقتصادي والخلقي والاجتماعي.
إن سلوك التكذيب نسق سلوكي يشتمل على كل أفعال الشر الباطنة والظاهرة، الاعتقادية والعملية، الفردية والاجتماعية، إنه يتعدى الفرد ذاته إلى أن يصبح سلوكا يدعى إليه ويربى عليه الأبناء والأجيال، وينتقل كالنار في الهشيم في المجتمع، إن التكذيب بالتعبير المعاصر إيديولوجيا فكرية اجتماعية لها أجندتها ومصالحها السياسية والاقتصادية وأهدافها في الوجود والصراع والبقاء، ولا تنحصر في فرد ولا في قول، ولا في تصرف فقط!! ولذلك كان فعل التكذيب فعلا خطيرا : لأنه فعل إنساني اجتماعي موجه، له تنظيماته وهياكله، ومؤسساته التي تقاوم الخير والصلاح وتسعى إلى تكثير سواد المفسدين وإخراج العباد من حالة الطاعة والانقياد لرب العالمين إلى حال العصيان والتمرد على الله ورسله وعباده الصالحين والمستضعفين، ومن حال الرحمة إلى حال العذاب، غير أن سنة الله اقتضت إبطال عمل المفسدين وإحباطه مهما بذلوا من جهد، قال تعالى : {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة، ثم يُغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون}(الأنفال : 36) لأن ذلك يخالف حكمة الله من خلقه الخلق، إذ ما خلقهم إلا لرحمته :{ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون} وأرسل رسله ليخرجوا الناس من العذاب إلى الرحمة: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} ولم يكن عمل المكذبين إلا خروجاً عن هذه الرحمة وحيلولة بين عباد الله ورحمة ربهم المجعولة لهم، لهذا كان التكذيب شرا مستطيرا، وخطرا كبيرا، وضرراً بينا، يجب دفعه ومعاقبة أهله، ولهذا القصد أنزل الله عز وجل سورة المرسلات كلها تحذيراً للمكذبين من سوء مصيرهم وعاقبتهم في اليوم الآخر: {ويل يومئذ للمكذبين}، وأخبر في آيات وسور كثيرة بعاقبة المكذبين ومصارعهم في الدنيا لينبه عباده على سننه جل وعلا في الأعمال والثواب والعقاب، والإهلاك والتمكين، ويدعوهم للاعتبار: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المومنين فاعتبروا يا أولي الابصار}(الحشر: 2)، إنها سنة الاعتبار من فعل المكذبين والمجرمين، وقال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الاولين}(الأنفال:38)، إنها سنة الله في الجزاء، سنة قبول توبة العباد الذين ينتهون عن فعل السوء والكفر والظلم والتكذيب وبطر الحق والاستكبار…، إنها سنة الرحمة الشاملة لكل العباد إلا من أبى الدخول فيها.
النوع الثاني : سـنـن اللـه في عبـاده الـمهـتـديـن:
هذا النوع يأتي في مقابل سنن الله في المكذبين، وهذا النوع هو المتعلق بسنن الله في الرحمة والهداية، وسنته في دعوة خلقه للدخول فيها وهدايتهم للعمل بمقتضياتها وتحصيل أسبابها والفوز بجوائزها، قال تعالى: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم}(النساء:26)، قال الإمام الطبري في تأويلها : ليسددكم سنن الذين من قبلكم : يعني سبل من قبلكم من أهل الإيمان بالله وأنبيائه ومناهجهم فيما حرم عليكم…” وقال الإمام ابن كثير: “يعني طرائقهم الحميدة، واتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها”.
نعم إن الله تعالى أقام كونه على قوانين ونواميس تحفظ توازنه سواء في مجال الكون أو مجال الإنسان والاجتماع البشري، هي سننه الثابتة التي لا تتخلف ولا تتحول ، تعم ولا تخص، تعدل ولا تظلم، فكما أن هناك سنن الظالمين والمجرمين، التي نهينا عن الاستنان بها واقتفاء أثرها، لئلا يصيبنا ما أصابهم من العقاب والهلاك والخسران، هناك سنن أهل الخير ، والصلاح والإصلاح، والإيمان والطاعة، هؤلاء لهم جزاء مناسب لخيريتهم :{وأن ليس للانسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الاوفى}(النجم: 38- 40) وحتى يدخل المرء في زمرة من ينالهم الجزاء الخير، عليه أن يفعل فعل أهل الخير، وفعل كل الأفعال الدالة على الصلاح وإعمار الأرض بما أمر الله أن تعمر به من العدل والتقوى والصبر والاجتهاد في جلب الخير، وتعمير القلوب بالخير والإيمان وحب أهلهما، وإخلائها من كل عوامل الفساد والخراب، فتعمير القلوب والعقول أولى بالعناية من تعمير الأجساد بالخبز ومظاهر الزينة، وقبل تعمير الأرض بالنسل والحرث والبناء…
وكما أن الفساد والشر له أهله وحماته، فعلى أهل الخير أن يتكتلوا في حماية الحق ونشره وتعميمه والتعاون عليه والصبر في احتمال الأذى فيه، فذلك من سنن الله:{ألم آحسب الناس أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم. فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}(العنكبوت: 1- 2).
إن الأمة اليوم تمر بظروف حالكة وتمر بمخاض عسير، وعانت ما لم يعلمه إلا الله من الشرور والمآسي، ولكن ذلك كله يجب أن ينظر إليه بمنظار سنن الله في الخلق والاجتماع البشري والتدافع بين الحق والباطل، وسننه في التداول الحضاري، والتدرج في النصر والتمكين بناء على درجة عمل الأمة بقوانين هذا الأمر. {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}، {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ، يعبدونني لا يشركون بي شيئا. ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون}(النور:53- 54).
إنها سنن الله في التمكين والمشروطة بتحصيل شروطها وأسبابها، والأمة المسلمة اليوم مطلوب منها التفقه بقوة وحزم وحكمة في سنن الله في خلقه. إنها أُتيت من جهة جهلها بهذه السنن، فضعف يقينها في الله واضطربت عقائدها وفسدت أعمالها، وارتمت في أحضان عدوها واتبعت سنن المكذبين والمرجفين والمجرمين فنسيت حظا مما ذكرت به من ربها. إن الأمة محتاجة للعودة لدين ربها وإسلام مقاليد أمرها لشرع الله وأهله وتربية جيل من المومنين الصادقين الحاملين رسالة العدل والخير والحرية والكرامة للبشرية، العاملين بسنن الله والمستبصرين بهداياته وإلا فإن الخسران يترصد بها كلما انحرفت عن هذه السنن: {والعصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.