كلمات ليست كالكلمات
في رحاب تلك الكلمات الهائلة المعاني التي كان يلقيها على مسامعنا تباعا رجال الدعوة كانت تنصهر الأهواء والأنفس والأنانيات الصغيرة بداخلنا لتجعلنا مع أخواتنا السريلانكيات ننسلخ من الزمن الحاضر ونهفو إلى الزمن الأول زمن الجهد الحقيقي للدين.
لحظة إلقاء تلك الكلمات التي حدثتك قارئي عن مقتطفات من بعضها في حلقات ماضية، كان الزلزال في كل مرة يرج بداخلنا الرخام ويرقق قلوبنا ويدفع المشاعر الفوارة لتسبقنا لتجصيص الأخوة، حتى إذا جاء الفجر وأزف وقت الرحيل استشعرنا كلنا كما لو كنا في زمن الهجرة الأول أنصارا ومهاجرين وكياننا يهتف لبيك يا رسول الله. هذا جهد الـمُقِلاَّتِ، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
واللحظة، كم أتمنى، قارئي أن يكون قراء هذه الحلقات كثيرين، أن أُفلح في تحريك أشواقهم للخروج في أصقاع الأرض لتبليغ دين الله تعالى بالتي هي أصدق، وجهد رسول الله فأنال بعض أجر ودعاء إذ تصل أقدامهم إلى سريلانكا وأقطار أخرى منسية كم يحتاج أهلها لهبات دينية، تقوي اصطبارهم ومرابطتهم العجيبة، وهم في جزر الكفر والشرك المتغول. وقد يقول قائل : مَهْلَك أختي! وليكن جهدك للمقربين، فهم أولى، وأجيبه، لو اطلعت أخي على غربة السريلانكيين ويتمهم وأنت تعوم في محيطات من الدعاة من كل أصقاع العالم صورا وشرائط، ومساجد لا تحصى، في حين تمشي الأقلية المسلمة هناك لصق الحائط،أنفاسها محصية وطوفان الشرك يحتنكها، ودمعها يطفر شوقا لكلماتك، في الوقت الذي يصد فيه عنك أحبابك وينعتونك بـ”الإخوانجي” و”الإرهابي” وإذا حدثتهم في الدين قالوا لك باستعلاء : “هادشي كلنا كانعرفوه نتوما عااللي قرا جوج حروف كايبغي يولي فقيه” لنفرت خفيفا وثقيلا هنا وهناك.
وشتان قارئي بين المتلهف لنعمة الدين العاض عليها، والمزدري لمهامها ورساليتها.
ودعوني بالمناسبة أقول لكم إخوتي إن الزمن زمن الدعوة بامتياز.. الناس يحيون الآن انهيار كل الإيديولوجيات من أقٌصى اليمين إلى أقصى اليسار.. الناس شبعوا كلاما أشبه بالبالونات المليئة هواء وهي الآن تفرقع في وجوه مروجيها الدجالين وتموت موتتها الأخيرة في قلوب متبعيها، لأنها إيديولوجيات أرضية انطلقت من الإنسان وعادت إلى الإنسان، متجاهلة رب هذا الإنسان، فحقت عليها السنن الربانية، فانهار بنيانها، ليغرق الإنسان في حيرته وتيهه الأول، ولن يستنقذ من تيهه إلا بما استنقذ به الأولون.
والطريق سالكة للدعاة لتأثيث الفراغ الروحي الهائل، فمن يعجل إلى المولى لينال رضاه؟؟
وأما بنعمة ربك فحدث
الناس جياع (كما أسلفنا) لحديث الدين لا الحديث الديني الخشبي المهني بل الحديث المهموم بوظيفة رسول الله ، حديث القلب الذي ينفذ إلى القلب، ولا أسرع وصولا إلى القلب من الحديث في معرفة الله سبحانه من خلال التوسع في ذكر نعمه التي تحيط بنا إحاطة السوار بالمعصم ولا نكاد نفطن لها، وقد ران على قلوبنا ما نكسب.
هكذا تكلم داعية الصباح الأخير بقرية ماتيلا في البيت السريلانكي ما قبل الأخير. قال إن الله خلق كل شيء من أجل الإنسان، وخلق الإنسان من أجل الدين وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنه ليعبده وحده بلا شريك، وجعل سبحانه لهذا الإنسان في كل حركة وسكون آية تدل على بديع صنعه ورحمته به.
وتساءل الداعي : كيف بالإنسان إذا أصبح يوما بحاسة من حواسه وقد عطلت أو عضو من أعضائه وقد شل، وكيف بالإنسان إذا سبحانه هيج عليه البحر فابتلعه؟! والطعام فكان سما فأهلكه؟! والأرض كلها مرتفعات فدوخته؟! والشمس خفيضة فأحرقته؟! والرياح اللواقح ريحا عقيما فصرعته؟! والهواء كبريتيا فخنقه؟! والماء غورا فقضى عطشا إذ لم يدركه أو جعله ملحا أجاجا فقتله؟! يقول سبحانه في أواخر سورة حبيبة هي سورة يس في ذكر نقطة من محيطات هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى :
{أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون}.
فكيف يكون الشكر للنعم إلا بالحمل الصادق لأمانة إعمار الأرض بالحق والعدل داخل بوثقة العبودية لله عز وجل؟؟!
وفي السياق حكى الداعي حكاية عجيبة انبجست لها الدموع ورجت لها القلوب وتقول الحكاية أن الفاروق عمر بن الخطاب طلب من جاره فرسا لقضاء حاجة له بمنطقة غير منطقته وأثناء السفر أصابه التعب فنزع عمامته ونام تحت ظل شجرة، وحين قام من نومه ركب إلى وجهته المقصودة، أثناء الطريق لقي غلاما نبهه إلى أن رأسه بدون عمامة فتذكر الفاروق أنه نسيها فوق جذع الشجرة فقال للغلام كلاما تظل دساتير العالم الأكثر ديمقراطية قاصرة عن إدراك عمقه الأخلاقي العظيم. قال الفاروق:
- يا غلام، الفرس أمانة عندي وقد أخذتها لجهة وغرض محدد ولا أستطيع أن أعود بها إلى هذا المكان الذي نسيت فيه العمامة فما لهذا الغرض استعرتها، فهلا ذهبت وأحضرت لي العمامة حيث نسيتها.
ودعوني إخوتي القراء مرة أخرى وأنا أسرد عليكم كلمات الداعي أغتنمها فرصة أفتح فيها سجل أفعالنا القبيحة، نحن الذين تردى الإسلام على أيدينا إلى الثرى بتمريغنا للأمانة في الوحل غير عابئين بتبعات تضييعها. ويكفيك قارئي على سبيل المثال، أن توجه عينيك في المنتزهات صوب سيارات الإدارة لتجدها أيام العطل في خدمة نزهات السائق وكل من يمت إليه بصلة من العائلة أو الأصدقاء وفي رحلات لا علاقة لها بالإدارة، أما هاتف الإدارة هو الآخر فالتواصل به خارج الغرض الإداري والتجوال بأسلاكه عبر أقطار المعمور غدا هو الأصل في الطقوس الوظيفية اليومية قتلا للوقت واغتناما لسيبة المجانية. وعلى سبيل الإشارة في المجال العسكري كما مجالات أخرى للسلطة، فاستعمال فيالق الجنود الصغار عسسا وحراسا و لكل المهام الأخرى غير الإدارية، يحمل في طياته كل العار والخزي لمن يستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا..
ترى الجندي عوض تواجده في ثكنته، رفقة سلاح الذود عن أمته، يعمل في حديقة القيادي العسكري السامي، وفي مطبخه، كما تراه يرتاد السوق والمتاجر عشرات المرات لتبضع “جنرالة” جنراله أي حرمه المصون.. ولا عجب إن رأيته كظلها عند المدلكة ومصففة الشعر ومحلات الزينة والأثواب وملاعب الكولف والتنس وو… ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأمثلة الشطط في استعمال السلطة المفضية إلى تضييع الأمانة بالعالم العربي تكاد لهولها تماثل موجة تسونامي في كرها الرهيب فكيف يستجاب لأصناف آدمية تلك مواصفاتها! ويأخذ المرء غير قليل من العجب حين يرى في أيامنا هذه التي يروق المولعين بالعناوين الفخمة تسميتها “بربيع الثورات”، فريقا من الأصناف إياها (وقد غدت موضة اللافتات خبزا يوميا في كل بقعة من بقاع العالم العربي)، يحملون اليافطات المنادية بالحرب على الفساد، وفيهم ثلة من الساكتين عن الفساد، إن لم يكونوا من الدائرين في فلك المفسدين، (خاصة على المستوى الديني) فكيف لهم أن يقودوا سفينة الإصلاح والأدهى إن كانت دوائر الاستكبار هي من تمسك بخيوطه الخفية، ولن ترضى إلا بالإصلاح الذي يقود زفته تلاميذها المتمرنون بدوائر مخابراتها.. وتلك قصة أخرى سنعود للتفصيل فيها في المستقبل.
ولأن الشيء بالشيء يذكر فمن أجمل الكلمات البليغة التي سمعتها مؤخرا من عسكري سابق دأب على تدريب الجنود، قوله للفرق العسكرية أثناء تدريبه لها (افعلوا ما أفعل لا ما أقول) وقد كان نموذجا للعسكري المنضبط في كل سلوكه فلا يأمر جنوده بأمر ما إلا كان الأول في الامتثال له وتنفيذه، فيتداعى الجنود للتنفيذ دون تأخير.
وبوضوح أكبر كيف لبعض وجوه الإصلاح بهذه الثورات الجديدة أن تدعو إلى محاربة الفساد وتدعو في نفس الآن إلى العلمانية وفصل الدين عن الدولة، أليس في هذه الدعوة، تضييعاً لأمانة الدين التي لأجلها خلق الله هذا الكائن المتواقح المتجاسر؟؟؟
وبالعودة إلى الداعي فقد كان يرافقه مترجم سريلانكي، كلما ترجم له فصولا من بطولات الأمس المجيد توالت صيحات التكبير والتهليل من أفواه الأخوات السريلانكيات مفعمة بالإجلال والإكبار،إذ كان الحديث في صفات أصحاب المصطفى وسيرته العطرة وهو بين ظهرانيهم لا يشبع نهمهن، كشارب الماء المالح لا يزيد ه شربه إلا عطشا.
عطشا تلمسنا أثره أثناء سمرنا الرمضاني في انتظار السحور ونحن نمضي أعز الشهور رفقتهن إذ توزع شغفهن بالدين إلى قنوت وقيام لا يفتر لصلاة الليل مع وصلات ذكر ودعاء ملحاح دون جلبة ملفتة وبكل الخشوع والهدوء، والوقار الذي يليق بعبادة الصادقين المخلصين.
ولا تظن قارئي أن حظهن من الدنيا ينصرف إلى الانزواء في الحلقات تشبها بالمعطلة من الصوفية فلهن كدحهن اليومي، إضافة إلى حلقات التعليم الشرعي وحلقات التفقه في الدين، ولا انفصام بين الجهدين مع تجديد النية التعبدية لله تعالى في سائر أعمالهن.
ويطول الحديث الشيق في يوميات الهجرة للدين، وها هو فجر الوداع يطل، والشيخ المغربي المهيب ونحن نستعد للخروج من البيت، يجدد التذكير بمعالم الدعوة الرسالية وصفات الداعية ويلح في الدعاء لأهل البيت الذين فتحوا مسكنهم لاستقبالنا.
وأثناء حديثه كنت أرى في عيون أخواتنا السريلانكيات ملامح دموع تترقرق على مشارف أحداقهن، ونحن نتأهب لجمع حقائبنا للرحيل، دموع سفحناها ليلا وهن يكرمننا بالأكل الطيب وبهدايا بسيطة في قيمتها المادية غالية في معانيها الأخوية الصادقة ويلححن على الدعاء لأهلهن، ويرسلن الزفرات وهن يستبقن صبيحة الرحيل.
وجلجل صوت الشيخ الأجش يدعونا للمغادرة، فتعالت شهقاتهن، واحتضنتني فاطمة بقوة رجاء دعاء “مستجاب مني” أن يهبها الخالق به، وهي الحامل، ذرية عابدة داعية. ما أطيبهم وهم يؤملون العجب من دعاء فقيرة لم تتعد السلك الإعدادي في العلم والجهد للدين.
ونحن نتوجه إلى السيارة الكبيرة التي كانت بانتظارنا همسن لنا أنهن سيحضرن إلى البيت الأخير لتوديعنا ووقفن في صف طويل مهيب بالشرفة ليشيعننا حتى نهاية الشارع، حيث انعطفنا إلى الشارع الرئيسي. وأطلت مرة أخرى الأزقة والشوارع المغبشة السحنة وهي تزدهي بتماثيل بوذا الصلفة، فتمعن في تحريك سكين غربة إخواننا السريلانكيين بداخلي وتضعني مرة أخرى وجها لوجه أمام سؤال الأمانة العملاق، أمانة الدعوة وتبليغ رحمة الله وهداه إلى العطشى في جميع أصقاع العالم.
ذة. فوزية حجبي