العبادة والتعبد والعبودية في ضوء المنهجية الإسلامية  (4/4)


في فقه الدعوة إلى التعبد:

العبادة غاية أوجد الله تعالى الخلق للقيام بها، قال تعالى وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون (الذاريات: 56).

ومن أفضل العبادات تعبيد الناس لله تعالى بالدعوة إليه والسعي في إدخالهم في دائرة العبودية، ولهذه الدعوة وهذا السعي منهج  وفقه  قرآني ونبوي نلف الأنظار إليه في مقالتنا هذه فنقول:

بيَّن الله تعالى ورسوله الكريم  أن توحيد الله وعبادته حق خالص لله تعالى على عباده كما في حديث مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: «يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ وما حقُّ العبادِ عَلَى الله؟» قَالَ قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللّهِ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً» . لقد ساق الحق سبحانه الناس إلى عبادته سوقا رفيقا رقيقا، فحببها إليهم بذكر أهدافها المصلحية، وبيان ثوابها وأجورها، ثم زاد مَن استجاب منهم أن حبَّب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ثم زيّن ما يقترفونه من حسنات ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا، وراعى أحوالهم ضعفا وقوة، سفرا وحضرا، استطاعة وعجزا، صحة ومرضا، مبتدئا ومتقدما، عالما وجاهلا، فلم يخاطب الجميع بخطاب واحد، وإنما قال: فاتقوا الله ما استطعتم، وليست الاستطاعة ضربا واحدا وإنما تتفاوت بحسب أحوال المكلفين وطبائعهم.

ولذلك قبل النبي  من الأعرابي المبتديء الإسلام أداء الفرائض ومعها إشارة إلى التطوع من جنس تلك الأصول، ثم لم يكلف بأكثر من ذلك لعلمه أن حاله وقتئذ لا تسمح بغير ذلك. فعن طلحة بن عُبَيد الله  قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله  من أهل نجد، ثائر الرَّأس، يُسمع دويُّ صوتِه، ولا يفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يَسألُ عن الإسلام، فقال رسول الله : «خمسُ صلواتٍ في اليوم واللَّيلة»، فقال هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا، إلاَّ أن تَطوَّع»، قال رسول الله : «وصيام رمضان»، قال هل عليَّ غيرُه؟ قال: «لا، إلاَّ أن تَطوَّع»، قال: وذَكَر رسول الله  الزكاة، قال هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا، إلاَّ أن تَطوَّع»، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أَزيد على هذا ولا أنقص، قال رسول الله : «أَفْلحَ إنْ صَدَق». ففي الحديث إرشاد منه  إلى أقصر الطرق للوصول إلى الله تعالى مراعاة لحال المخاطب، وفي ذات الوقت لم يرض  من آخرين مثل هذا المستوى من التعبد، فقد قال عبد الله بن عمرو بن العاص  قال:  قال لي رسول الله : «يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل». لم يرض رسول الله من عبد الله ترك قيام الليل فنصحه بألا يجهد نفسه فيه فينقطع بسبب المشقة كما فعل غيره المشار إليه في الحديث، ففي الحديث نهي عن التكلف والمشقة في التعبد حتى يتمكن المرء من الاستمرار فيها دون انقطاع.

ففي الخطاب الدعوي قد يقبل من الداعية أن يخاطب العامل المجهد سحابة نهاره في العمل الشاق بمثل حديث: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ» فهذا العامل الطيب الذي ما إن يدخل عليه الليل حتى ينتظر صلاة العشاء ليأوي بعدها إلى الراحة بعد يوم طويل من الجهد والمشقة، في حين لا يقبل مثل هذا المستوى من أولئك الذين يقضون أوقاتهم في مكاتب مكيَّفة وعمل مريح، كما لا مثل ذلك من  داعية قدوة أو إلى مربي ترمقه أبصار من يربيهم، لذلك كان قيام الليل إلا قليلا فرضا على تلك الفئة الرائدة التي بعثها الله تعالى في مكة للقيام بأكبر عمل تأسيسي للإسلام.

إن مراعاة مواقع الخطاب الدعوي من امرأة ضعيفة أو عامل مجهد أو مسلم مبتديء، أو تائب قريب العهد بعبادة أمر ضروري، واختلاف لغة الخطاب وأنواع التكاليف وأقدارها من هؤلاء إلى نوعية أخرى مثل القادة والدعاة والعابدين والصالحين والحفظة والعلماء ينبغي أن يراعى.

وإذا كانت البلاغة موافقة الخطاب لمقتضى الحال، فمراعاة حال الناس وواقعهم وقدراتهم واختلاف أحوالهم  هو الفقه الضروري.

لقد رأينا من يُضعٍف همم العابدين بحجة الدعوة إلى التيسيير،  في حين يَشق على الضعاف والمبتدئين، يريدون أن يحملوهم على أحوال إولي العزائم، ويحملوا العامة على شأن الخاصة، وقد نبه الشاطبي في الموافقات على أن من كان محل القدوة إن فعل شيئا من التعبدات مما هو من باب العزائم غير المستطاعة للجمهور إما أن يخفيها، وإن أظهرها فلينبه على أنها نوافل لا فرائض، فقال  رحمه الله: “قد يسوغ للمجتهد أن يحمل نفسه من التكليف ما هو فوق الوسط؛ بناء على ما تقدم في أحكام الرخص، ولما كان مفتيا بقوله وفعله كان له أن يخفي ما لعله يقتدى به فيه فربما اقتدى به فيه من لا طاقة له بذلك العمل، فينقطع وإن اتفق ظهوره للناس نبه عليه، كما كان رسول الله  يفعل؛ إذ كان قد فاق الناس عبادة وخلقا، وكان  قدوة؛ فربما اتبع لظهور عمله؛ فكان ينهى عنه في مواضع؛ كنهيه عن الوصال، ومراجعته لعمرو بن العاص في سرد الصوم وأنكر على الحولاء بنت تويت قيامها الليل، وربما ترك العملخوفا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.

ولهذا -والله أعلم- أخفى السلف الصالح أعمالهم؛ لئلا يتخذوا قدوة، مع ما كانوا يخافون عليه أيضا من رياء أو غيره، وإذا كان الإظهار عرضة للاقتداء؛ لم يظهر منه إلا ما صح للجمهور أن يحتملوه”.

د. أحمد زايد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>