إن طبيعة هذا الدين العالمية، وامتداد جذوره في أعماق هذا الكون منذ عهد النبوة الأولى﴿إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى(1)﴾ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون(2).
وإن بشارة رسول الله بانتشاره في بيت مدر ووبر حتى يبلغ الآفاق:﴿«ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بين مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل به الكفر»(3). ولقد أدرك الصحابة رضوان الله عنهم والتابعون وتابعوهم بإحسان طبيعة هذا الدين فحملوه إلى البلدان… حمله مصعب بن عمير إلى أسد بن حضير وقومه، وحمله ربعي بن عامر إلى كسرى وأعوانه، وحمله معاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري إلى أهل اليمن.. وحمله من حمله بتوفيق من الله وبحول منه وقوة إلى بقاع الأرض تتقدمهم ثقة بنصر الله لهم، وتمكينهم في الأرض قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين(4).
فلم يشعروا بالاغتراب بل انفتحوا واندمجوا في المجتمعات مبشرين ومنذرين واعون بقيمة إسلام الناس على أيديهم وهدايتهم، وأجر ذلك عند الله .
إن المسلم –كما قال الإمام الماوردي رحمه الله تعالى- إذا قدر على إظهار دينه في بلد الكفر، فالإقامة فيه أفضل لما يرجى من دخول غيره في الإسلام.
وخطاب المسلم الدعوى لغيره من غير المسلمين له أشكال كما أوضح الدكتور عبد الله الزبير عبد الرحمن في كتابه “مرتكزات الخطاب الدعوي في التبليغ والتطبيق”.
الشكل الأول: خطاب القدوة
فالأنبياء المصطفون كانوا قبل تكليفهم بدعوى الناس طيبين خيرين صالحين… ولنا في رسول الله الملقب بالصادق الأمين قبل بعثته أسوة حسنة.
فقد انتصر لغير المسلم على المسلم في قصة أبي حدرد مع اليهودي حين طالبه النبي بأن يعطي اليهودي حقه.(5)
وعمر بن الخطاب ينتصر للقبطي على ابن لعمرو بن العاص . وقال كلمته الشهيرة: اضرب ابن الأكرمين، ثم قال: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”.(6)
وهكذا انتشر الإسلام في البلدان: “بما قدمه المهاجرون إليها من القدوة الحسنة والتزام الحق، والدعوة بالحال قبل المقال، وقد لا يحتاج الدعاة في الاندماج إلى كثير معاناة وجهد إذا التزموا الحق، وقدموا الخير الذي يحملونه بأجمل ما يكون، وعلى أحسن حال يرجى، ولكن ياحسرة على المهاجرين إلى بلاد الكفر، يقدمون أسوأ أحوال المتفلت عن الدين” المتحلل من التزاماته، المتخلي عن أدائه فيرى غير المسلم المسلم فيسوؤه ما يرى فيدبر ولا يقبل”.(7)
الشكل الثاني: خطاب المجادلة
من الناس من يفتح قلبه بمجرد رؤية القدوة الحسنة ومن الناس من تؤثر فيه المجادلة بالتي هي أحسن، فإذا هم في صفوف المؤمنين بالله .
فالأنبياء جادلوا أقوامهم بالتي هي أحسن، والنبي أمر بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ومجادلة الناس بالتي هي أحسن:﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.(8)
والمسلمون يؤمرون بها في مجادلة أهل الكتاب﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن.(9)
ويؤمرون بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة سواء﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله.(10)
ويقول ابن القيم في فقه قصة مجادلة النبي لنصارى نجران في عيسى ونزول قوله تعالى:﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون عقبها: (11)
ومنها: “جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته هي إسلام من يرجى إسلامه منهم، وإقامة الحجة عليهم، ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة، فيؤل ذلك إلى أهله، وليخل بين المطي وحاديها والقوس وباريها”.(12)
الشكل الثالث: خطاب المجاهدة
وهذا الشكل يحتاج إلى الإعداد الكامل، وله ظروفه وحيثياته ومتطلباته..
إن المسلم في المجتمعات غير المسلمة ملزم بالمشاركة في كل ما من شأنه ألا يقوض ثوابته، ومقوماته الحضارية، وخصوصياته الثقافية، وألا يحدث خللا فيها.
وثم يجب الإلتزام.
أولا: التعاون على البر، ومواجهة موجات الإلحاد، والإباحية، والشذوذ الجنسي…
ثانيا: مناصرة قضايا المستضعفين والمظلومين والمضطهدين، والوقوف في وجه المفسدين والمستكبرين…
ثالثا: إشاعة روح الأخوة الإنسانية، والتسامح، والرحمة، وحب الخير للناس جميعا.
إن رسالة المؤسسة الدينية –المسجد- يجب أن تضع في الاعتبار أن المسلمين في المجتمعات غير المسلمة هم جزء من الأمة المسلمة، وأن ولاءهم لله ولرسوله ولكتابه وللمومنين، وأن من حقهم أن يعيشوا إسلامهم كما أمر الله ورسوله ، وأنهم كذلك جزء من مجتمعاتهم التي ينتمون إليها، أو يعيشون فيها خاصة إذا كانت لهم جنسيات تلك المجتمعات، أو إقامات فيها.
ولذلك فإن كل البرامج الموضوعية أو المقترحة يجب أن تلبي الأمرين معا.
من غايات المؤسسة الدينية ووظائفها:
إن من جملة المقاصد التي يجب أن تراعيها المؤسسة الدينية:
أولا: أن ينشأ المسلمون في هذه المجتمعات غير المسلمة نشأة إسلامية
ثانيا:أن تسهم في المحافظة على هويتهم ومقوماتهم الحضارية
ثالثا: ان تجعلهم منفتحين على غيرهم، غير متقوقعين على أنفسهم ومنعزلين عن مجتمعاتهم بل يجب كما قال الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه عن قئة “الأقليات المسلمة” أن تتفاعل هذه الأقلية المسلمة مع المجتمع تفاعلا إيجابيا، تعطيه أفضل ما عندها، وتأخذ منه أفضل ما عنده على بينة وبصيرة، وبذلك تحقق المعادلة الصعبة “محافظة بلا انغلاق واندماج بلا ذوبان”.(13)
رابعا:أن تجعلهم يؤدون واجباتهم بلا نقص ولا تقصير، ويمارسون حقوقهم دون وكس ولا شطط وفق ما يمليه عقد الإقامة ومتطلباته، أو عقد المواطنة ومقتضياته.
ولعل التوصيات والمقررات الصادرة عن الهيئات والمنظمات الإسلامية خير شاهد على ذلك، فقد دعت إلى:
- المحافظة على الهوية الإسلامية والشخصية الدينية بالالتزام بشرع الله تعالى.
- إعطاء الصورة الطيبة، والقدوة الحسنة للمجتمعات غير المسلمة.
- الوفاء بمقتضيات عهد الأمان، وشروط الإقامة والمواطنة في تلك البلاد.
- التذكير بأن أرواح غير المسلمين وأموالهم وأعراضهم معصومة بمقتضى ذلك العهد الذي دخلوا به هذه البلاد﴿وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا.(14)
- احترام قوانين البلاد التي آوتهم وحمتهم ومكنتهم من التمتع بكل ضمانات العيش﴿هل جزاء الإحسان إلا الإحسان.(15)
- اجتناب كل أساليب الكسب الحرام.
- بذل أقصى الوسع في تنشئة الجيل الجديد تنشئة إسلامية، وذلك ببناء المساجد وتأسيس المدارس والمؤسسات والمراكز التربوية والترفيهية لحمايتهم من الانحراف.
- الاعتصام بالعروة الوثقى، وبث روح الأخوة والتسامح، والاعتدال، والتعاون على البر والتقوى، والتزام الحوار الهادئ والأساليب السلمية في معالجة قضايا الخلاف بعيدا عن مناهج التشدد ومسالك التطرف التي تشوه صورة الإسلام، وتسيء أبلغ الإساءة إلى المسلمين.
- مطالبة المسلم بإقامة الأحكام الشرعية التي تخصه كأحكام العبادات والأسرة والأطعمة وغيرها، وعدم تكليفه شرعا بإقامة أحكام الشرع المدنية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام في مجتمع لايؤمن بالإسلام، لأن هذا ليس في وسعه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
- انفتاح المجموعات الإسلامية في أوربا على محيطها وتأثيرها الإيجابي فيه.
خاتمة:
إننا نريد لهذه الفئة المسلمة في المجتمعات غير المسلمة أن تعيش حياتها في إطار المرجعية الإسلامية، وأن تسير فيها سيرا بلا حرج ولا عنت ولا مشقة.
نريد لها أن تحيى حياة إسلامية: محافظة على هويتها الحضارية، ملتزمة بتعاليم دينها عقيدة ومنهاجا، ثقافة وأخلاقا، آدابا وسلوكا.
نريد لها أن تكون واعية بدورها وبواجباتها وحقوقها، تؤدي الذي عليها، وتسأل الله من فضله ورحمته، مستقيمة على الهدى﴿قل إن هدى الله هو الهدى(16)﴿وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.(17)
نريد أن يكون اندماجها اندماجا إيجابيا وقافا عند حدود الله :﴿تلك حدود الله فلا تعتدوها(18)﴿ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه(19).
نريد أن تنطلق في الآفاق داعية إلى الله :﴿ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا، وقال إنني من المسلمين(20)﴾ شعارها﴿قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين(21).
د. زكرياء المرابط
————–
1 – سورة الأعلى، الإيمان 18-19.
2 – سورة التوبة، الآية 33.
3 – سالم الإمام أحمد عن تميم الداري.
4 – سورة الأعراف، الآية 127.
5 – الإصابة 2/295 وينظر حياة الصحابة 2/69.
6 – حياة الصحابة 2/74.
7 – مرتكزات الخطاب الدعوي في التبليغ والتطبيق، ص: 74.
8 – سورة النحل، الآية 125.
9 – سورة العنكبوث، الآية 46.
10 – سورة آل عمران، الآية 63.
11 – سورة آل عمران، الآية 58.
12 – زاد المعاد 3/537.
13 – في فقه الأقليات المسلمة، ص: 35.
14 – سورة الإسراء، الآية 34.
15 – سورة الرحمن، الآية 59.
16 – سورة البقرة، الآية 119.
17 – سورة الأنعام، الآية 154.
18 – سورة البقرة، الآية 227.
19 – سورة الطلاق، الآية 1.
20 – سورة فصلت، الآية 32.
21 – سورة يوسف، الآية 108.