الخطبة الأولى
….عباد الله : قال الرسولُ الأكرمُ صلى الله عليه وسلم : >إنَّ في الجَنةِ غُرَفاً يُرَى باطنُها مِنْ ظاهِرها، و ظاهرُها مِنْ باطِنها، أَعَدَّها اللهُ لمِنْ أطْعَمَ الطَّعامَ، وأَلانَ الكلامَ، وتابَعَ الصيامَ، وقامَ بالليل والناسُ نِيامٌ <(1).
في هذا الحديثِ المبارَكِ وصْفٌ مِنَ الرسولِ الكريمِ لمُقامٍ عظيمٍ هيَّأهُ الله للمؤمنين في الآخرة، نالُوهُ بتوفيقِ اللهِ لهُمْ وبتأدِيَتِهِم لأعْمالٍ فاضلَةٍ عمِلوها في الدنيا وعَجَزَ عنها غيرُهم وهي: إكرامُ الناس بما تَجُودُ به أيديهم وموائِدُهُم، والطَّيِّبُ الحسَنُ مِنَ القَول، وصِيامُ النوافِلِ والمداومَةُ عليها في كثيرٍ مِنْ أيام السَّنَة.
لقدْ جاء في السُّنَّةِ النبويةِ القوليةِ الحثُّ على صيامِ التطوعِ في عدةِ منسباتٍ إسلاميةٍ مِنَ السَّنَة القمريةِ، حتى أننا نَجِدُ كلَّ شهر يدخُل في هذا الحَثِّ، والدارسُ لسُنَّةِ الرسولِ الفعليةِ يجدُ أنهُ صلى الله عليه وسلم واظبَ على صيامِ التطوعِ وداومَ عليه كما روى عنه أصحابُهُ الكرامُ وأمهاتُ المومنين رضي الله تعالى عنهم .
عن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ : “كان النبيُ صلى الله عليه وسلم يتحرَّى صَوْمَ الاثنينِ والخميسِ”(2)، وعن أبي هريرةََ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ : >تُعْرَضُ الأعمالُ يومَ الاثنين والخميس، فأُحِبُّ أنْ يُعْرَضَ عملي وأنا صائمٌ <(3).
وحَضَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على صيامِ الأيامِ البِيضِ مِنْ كلِّ شهرٍ قَمَريٍّ فقال : >صيامُ ثلاثةِ أيامٍ مِنْ كلِّ شهرٍ، صيامُ الدهرِ : وأيامُ البيضِ، صبيحةُ ثلاثَ عشْرةَ، وأربعَ عشْرةَ، وخمسَ عشْرةَ<(4)، ومعنى الحديثِ أنَّ مَنْ صامَ ثلاثةَ أيامٍ منْ كلِّ شهْرٍ كان كمَنْ صامَ شهْرا كامِلاً لأنَّ الحسنةَ بعشْرِ أمثالها، ومِنْ مجموعِ الأحاديثِ التي تأْمُرُ بصيام التطوع يُسْتَحبُّ أنْ لا يَمُرَّ شهرٌ مِنْ شهور العامِ خاليا مِنَ الصيام.
وضِمْنِيا عندما حثَّنا الرسولُ صلى الله عليه وسلمُ على صيام الاثنينِ والخميسِ وثلاثةِ أيامٍ مِنْ كلِّ شهرٍ، حثَّنا على الصومِ في فصل الصيف وفي غيره، لأنَّ الاثنينَ والخميسَ يأتيان في كلِّ أسبوع، وفي كلِّ شهرٍ، وفي كل فصْلٍ، والأيامُ البيضُ كذلك تأتي في كلِّ شهرٍ، وفي كل فصْلٍ.
إنه حثٌ بالتلميحِ على الصيامِ في فصلِ الصيفِ وفي غيره مِنْ فصولِ السنة.
ولقدِ اعتَبَر عمرُ رضي الله عنه الصومَ في شِدَّةِ الحرِّ مِنْ خِصالِ الإيمانِ التي وصَّى بها ابنَه عبدَ الله عندَ موتِه، قائِلاَ لهُ : “عليك بخصالِ الإيمانِ”.. وسمَّى أوَّلَها: “الصوم في شدة الحر في الصيف”(5).
وعبدُ اللهِ ابنُ عمرَ الابنُ البار المُطيعُ سمِعَ مِنْ أبيهِ فأطاعَ، وحفِظَ الوصيةَ فَوَعَى، وتَمثَّل َورعى، ولقد كانَ رضي الله عنهُ “يصومُ تَطَوُّعاً فيُغْشَى عليه فَلا يُفطِرُ”(6).
وقولُ الصحابيِّ وفِعْلُهُ حُجَّةٌ شرعية في هذا المقامِ كما هو مِنْ مصادِرِ التشريعِ في المذهبِ المالكِيِّ.
عباد الله : قدْ تستَثْقِلُ نفوسُ بعضِ الناسِ صومَ التطوُّعِ في الأيامِ عامَّةً وفي الصيفِ خاصَّةً، وتُوحِي النفوسُ الضَّعيفَةُ الساقِطةُ الهمَّةِ إلى أصْحابِها أنَّ صيامَ الصيفِ فيه مشقَّةٌ وعُسْرٌ، ودينُنا دين رحمة لا دين مَشقةٌ، وشريعتنا شريعة تَيْسير لا شريعة تعسير، وأنه ليسَ منَ الدينِ إتعابُ النفْسِ وإلحاقُ المشقَّةِ بها، وكل هذا حق تتحجج به النفوس المتكاسلة الخاملة القاعدة الجامدة .
ويُعرقِلُ الشيطانُ اللئِيمُ العبدَ بوساوسه وإِيحاءاتِه المُضِلَّةِ، ويُوحي لهُ بأنَّ صيامَ التطوعِ يُؤجَرُ فاعلُه ولايُعاقََبُ تاِركُهُ، فلا داعِيَ لأن يُتْعِبَ المسلم نفسَه بصيامٍ غيْرِ مفروضٍ عليه في وقت شديد حرُّه، متوقعٍ ضُرُّه .
رَحِمَ اللهُ الجيلَ الأَوَّلَ مِنْ هذهِ الأمَّةِ، لقدْ عَرَفوا فَضْلَ الأزمِنَةِ وفَضْلَ الأمكنَةِ وفَضْلَ الأخيار، وفَضْلَ الأعمالِ الصالحَةِ، فبادَرُوا إليها وتواصَوْا بها، ولمْ يَنشَغِلوا عنها بمفاتِنِ الدنيا، ولَمْ يَفُتْهُم أيُّ فضْلٍ مِنْ كلِّ خيرٍ، وبهذا أصبَحُوا نماذِجَ مُنيرَةً لِمَنْ أتَى بعدَهُمْ في العَمَلِ.
عباد الله : الصومُ في الصيفِ يَدُلُّ على رُسوخِ الإيمانِ وقُوةِ الإيقانِ، وهو طريقٌ موصِلٌ إلى الإحسانِ، ويُكْسِبُ صاحِبَهُ رضى الرحمانِ، وبه ينجو منَ النيرانِ، ويَدْخُلُ الجِنانَ، ويَنْظُرُ إلى وجهِ الملك الديان.
الصائِمُ في الحرِّ في وقْتِ الهَرْجِ وأيامِ الفِتَنِ والابتعادِ عنِ الدِّينِ والانشغالِ بالتوافِهِ والملاهي وحِينَ غفلَةِ النَّاسِ هو كمَنْ هاجَرَ إلى النبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: >الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ <(7).
الصائمُ في أيامِ الصيفِ المعروفَةِ بطُولِ ساعات النهار، وبشدَّةِ الحرارةِ فيها، يتعبَّدُ للهِ بالصيام ساعاتٍ طِوَالا، بخلافِ الذي يصومُ يوماً ساعاتُه قليلةً، فالأَولُ يُؤْجَرُ كثيرا، لأنَّ مَنْ بَذَلَ جُهْدا مُضاعَفاً في عَمَلٍ صالِحٍ ما، ونالَتْهُ فيه المشقةُ والتَّعبُ نالَ أجْرا كثيرا وعَطَاءً عظيما، وهذا ما فطِنَتْ له إحدى الصالحاتِ حيثُ كانت” تَتَوخَّى(8) أشدَّ الأيام حرّاً فتصومَهُ فيُقالُ لها في ذلك فتقولُ : إن السِّعْرَ إذا رَخُصَ اشتراهُ كلُّ أَحَدٍ(9).
كانت رحمَها اللهَ تَسارِعُ إلى العملِ الصالحِ حينَ يصْعُبُ على ضِعافِ النُّفوسِ وساقِطِي الهِمَمِ، وهذا مِنْ عُلُوِّ هِمَّتِها وحِرْصِها على الثَّوابِ الكثيرِ الذي يكونُ مَعَ العملِ الصَّعْبِ الشَّاقِّ.
كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه معَ صِحَابٍ له في سفينةٍ فسَمِعَ هاتفا يقول : ” ألا أخبِرُكُمْ بقضاءٍ قَضاهُ اللهُ على نفسِهِ؟، قالوا : بلْ أخْبِرْنا، قال : فإنَّ اللهَ قَضَى على نفسِهِ أنه مَنْ عطَّش َ نفسَهُ لله في يومٍ حار كان حقا على الله أنْ يَرويَهُ يوم القيامة(10)، فكانَ أبو موسى يَختارُ اليومَ الحارَّ الشديدَ الذي يكادُ الإنسانُ يَنْسَلِخُ منه فيصومَه.
ومما كُتِبَ في التوراةِ: ” طُوبَى لِمَنْ جَوَّعَ نفسَهُ ليومِ الشِّبَعِ الأكبرِ، طوبى لِمَنْ عطَّش نفسَهُ ليومِ الرَّيِّ الأكبَرِ(11).
قال الحسنُ : تقولُ الحَوْراءُ لولِيِّ اللهِ وهو متكِئٌ معها على نهرٍ في الجنةِ تُعاطِيهِ الكأسَ في أنْعَمِ عِيشَةٍ : أتَدْرِي أيَّ يومٍ زوَّجَنِيكَ الله؟ إنَّهُ نظَرَ إليك في يومٍصائِفٍ بعيدٍ ما بيْن الطَّرَفَينِ(12)، وأنْتَ في ظَمَإِ هاجرةٍ مِنْ جَهْدِ العَطَشِ، فباهى بِكَ الملائكَةَ وقال: انْظُروا إلى عَبْدِي تَرَكَ زوجَتَه ولَذَّتَهُ وطعامَهُ وشرابَهُ مِنْ أجْلِي رغبَةً فيما عندي، اشْهَدُوا أنِّي قد غفرْتُ لَهُ، فغَفَرَ لكَ يومئِذٍ و زوَّجَنِيكَ”(13).
الله أكبر: ما أعظمها من عطية، على أجمل مزية.
الصائمُ في أيامِِ القَيْظِ غريبٌ بيْنَ أصحابه، فريدٌ في بابِه، مجاهدٌ بطلٌ صَلْبُ العُودِ، قَوِيُّ الشَّكيمَةِ، صاحِبُ طُموحٍ وعزيمَةٍ، لا يرضى أمامَ نفسِه وشيطانِه بالهزيمَةِ، تحكَّمَ في زِمامِ نفْسِه فغَلَبَها وأرغَمَها على الصيامِ في أولِ الأمرِ وهي كارهَةٌ، وأخَذَ يُرغِّبُها تارةً ويُرهِّبُها تارةً، ويُروِّضُها ويُحَفِّزُها ويُدَرِّبُها على الصيام أياما حتَّى ذاقَتْ وأحبَّتْ واشتاقَتْ وأذْعَنَتْ وأَلِفَتْ وداومَتْ عليه بفَرَحٍ ونشاطٍونَشْوَةٍ ولَذَّةٍ وحَلاوَةٍ.
عباد الله : إن المُمْسِك عنِ الطعامِ والشرَّابِ في أيامِ الحَرِّ والصَّهْدِ يَجُوعُ إذا شبِعَ غيرُه، ويَظْمَأُ إذا رَوِيَ بالماء البارد سواهُ، هو بفعلِهِ هذا كالذاكِرِ بيْنَ الغَافِلِينَ، وكالمُجاهِدِ بيْنَ القاعِدِينَ، لا يَكْتَرِثُ بنَهَمِ الناهمين، ولابتنَعُّمِ المُتَنَعِّمينَ ولا بتلَذُّذِ المتلذذين.
الصائمون في اليومِ الصائِفِ رجالٌ زُهَّادٌ، ونُسَّاكٌ عُبَّادٌ، قانِعون وَرِعُون، لا تَغلِبُهُمْ بُطونهم، ولا ينْجَرُّونَ وراء قُتارِ(14) المَوائِدِ، ولا تُغْرِيهِمْ ألَذُّ المأدُباتِ لأنهُمْ أعْطَوُا العهدَ للهِ بالجُوعِ تَقَرُّباً وتَحَبُّباً إليهِ، تَخْوَى مَعِدَتُهُمْ لتمتلئ صَحائِفُهُمْ، وتَجُوعُ بُطونُهم لتشبَع أرواحُهُم، وتَجِفُّ ألسنتُهُمْ وحُلُوقُهم لتَرْوَى يومَ القيامَةِ بما هو أبْرَدُ مِنَ الثلْج وأحلى مِنَ العسلِ وأبيضُ مِنَ اللَّبَنِ.
يَظُنُّ بعضُ الناسُ أنَّ صائمَ الصيفِ يُعذِّبُ نفْسَهُ وهو يُربِّيها ويُمَتِّعُها، ويقولون إنَّهُ يُظمِئُها وهو مِنْ أنهارِ الجنَّةِ يَرْوِيها، ويَزْعُمُ الواهِمُونَ أنَّهُ يُأْلِمُ بطنَه بالجوعِ وهو مما عند الله يُغَذِّيها.
عباد الله : إن صائم الصيفِ مُحسنٌ في قِمَّةِ الإحسان، عَرَفَ الرحمانَ، وعبده بإيقان، عبَدَهُ بجوارِحِه وبالجَنانِ، وليٌ للهِ مُحِبٌّ محبوبٌ، جَوارِحُهُ ذاكِرَةٌ وإنْ غَفَلَ، عابِدةٌ وإنْ لمْ يَعبُدْ، خاضعةٌ ساجدةٌ وإنْ لمْ يسْجُدْ، يقِظَةٌ وإنْ يرقُدْ، وقَّافَةٌ عندَ حُدودِ الله لَمْ تَشْرُدْ، مُجاهِدةٌ وإنْ يقعُدْ.
لا يُغْرِيهِ الماءُ البارِدُ ولا الأكلُ الشهِيُّ اللذِيذُ، ولا تستَهْويهِ في النهار فواكِهُ الصيفِ الغنيةُ بالماءِ وبما تحتاجُه الأجسامُ في أيام الصيفِ الحارةِ.
يكادُ يَجِفُّ حلقُه ويَنْشَفُ لسانُه فما يَكْرَعَُ(15)، وتَخْوَى أمعاؤُه فما في الطعام يَطْمَعُ، أبِيُّ النفس، أعْرَضَ عن هَواهُ، وأطاعَ مولاه، وتَحَكَّمَ في نفْسِه فارتاحَ وأراحَ، ساحَتْ روحُه في بساتِينِ الطاعاتِ، وتمتعَتْ بأريجِ النَّفَحاتِ، لتنْجُوَ في الآخرةِ منَ النار ذاتِ اللَّفَحَاتِ، وتنالَ أفضَلَ العطآءات والهِبات.
عَلِمَ المؤمِنُ أنَّ الجزاءَ على الصيامِ لا يَعْلَمُهُ إلا اللهُ وحدَهُ، وأنَّهُ سبحانَهُ وتعالى أفْرَدَ للصائمين بابا مِنْ أبواب الجنَّةِ خاصّاً بِهِمْ، لا يدْخُلُهُ غيرُهُمْ فإذا دخلوا أُغلِقَ، فأكثَرَ منَ الصيامِ في الصيفِ وصَبَرَ على الجُوعِ والحَرِّ وشِدَّةِ العَطَشِ وطُولِ النهارِ. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
عباد الله :
يُعْرَفُ فصْلُ الصيفِ عنْدَ كثيرٍ منْ ناسِ هذا الزمان بأنهُ فترةٌ للراحةِ والدَّعَةِ والخُمولِ والتَّرويحِ واللَّهوِ، وتَغْلِبُ فيهِ عليهِمُ العادةُ والغفلة والبِطالة، ويقضُون أوقاتَهم فيه في اللهوِ واللعبِ بَدَلَ الجِدِّ والاجتهاد والطاعة.
والذي يبحثُ في سِيَرِ الصّالِحينَ في القُرُونِ الأُولى وخلال التاريخِ الإسلامِيِّ تَظْهَرُ له القُدْوَةُ الحسنَةُ، ويجِدُ مِنْ أمْرِهِمْ عَجَباً، و يَجِدُ لهُمْ في فِعْلِ خِصَالِ الخير رَغَباً، ومِنَ الشَّرِ هَرَبا.
كانَ الصحابَةُ والتابعونَ والصالحونَ في كلِّ زمانٍ وكُلِّ مكانٍ رضي الله عنهمْ يَتَفَنَّنُونَ في طاعةِ ربهِم، ويجتَهِدُون في عبادةِ ربِّهِمْ بكُلِّ أنواعِ الطاعاتِ في كل الأوقاتِ للاقترابِ منه سبحانه ونيلِ رضاه وطَمَعاً فيما عندَه، وهُمُ الذِينَ ابتَكَرُوا ما سُمِّيَ بـ”ظَمَإِ الهَوَاجِرِ(16) وهُو الإكثارُ منَ الصومِ في شِدَّةِ الحَرِّ، باعتبارِهِ ممَّا يُضاعِفُ الثَّوابَ، لمَا فَيهِ منَ الظمَإِ والمَشَقَّةِ ومُغالبَةِ الهَوى في اليومِ الشديدِ الحرارَةِ.
كان أبو الدرداءِ رضي الله عنه يقول: “صُومُوا يوماً شديداً حرُّهُ لحرِّ يومِ النشور، وصَلُّوا ركْعتينِ في ظُلمةِ الليل لظلمة القبور”(17)، و كان قولُ أبي الدرداءِ كفعلِه.
ولقد أثُِر عن كثيرٍ مِنَ الصالحينَ عند الاحتضارِ أنهم بَكَوْا على صيامِ أيام الصيف الذي سيُحرَمون منه بالموت : ومِنْ ذلك أنه لما احتُضِرَ أحدُهُم بكى فقيل له: أتجزَعُ منَ الموت وتبكي، فقال : ما لي لا أبكي، ومَنْ أحَقُّ بذلك منِّي؟، واللهِ ما أبكِي جزَعاً من الموت، ولا حِرْصاً على دُنياكم، ولكنِّي أبكي على ظمإ الهواجر وقيامِ ليلِ الشتاء .
وبكى الصحابيُّ الجليلُ معاذٌ رضي الله عنه عندَ موتِه، وقال لما سُئِلَ عن سببِ بكائِه : ” إنما أبكي على ظمإِ الهواجر، وقيامِ ليلِ الشتاء، ومزاحَمَةِ العلماء بالرُّكَب عند حِلَقِ الذِّكْرِ” .
ولقد وقف أبو ذر الغفاري رضي الله عنه ذات يومٍ أمام الكعبةِ ثم قال لأصحابه:” أليس إذا أراد أحدُكُمْ سَفَراً يستعِدُّ له بزادٍ ؟ قالوا : نعَم، فقال : فسفَرُ الآخرةِ أبْعَدُ مما تُسافرون، فقالوا: دُلَّنا على زاده، فقال : حُجُّوا حجةً لعظائمِ الأمور، وصَلُّوا ركعتينِ في ظلمةِ الليلِ لوحشة القبور، وصُومُوا يوماً شديداً حرُّه لطول يومِ النشورِ”(18).
أحمد المتوكل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه أحمد وابن حبان والطبراني في الكبير بسند رجاله ثقات
2 رواه الترمذي كتاب الصوم باب ما جاء في صوم الاثنينِ والخميسِ وقال: حديث حسن
3 رواه الترمذي كتاب الصوم باب ما جاء في صوم الاثنينِ والخميسِ وقال: حديث حسن
4 رواه النسائي كتاب الصيام باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر بإسناد جيد والبيهقي عن جرير
5 ابن رجب الحنبلي لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف 402
6 نفسه ص 403
7 رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة باب فضل الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ
8 تَوخَّى الأمرَ يتوخاه تَوَخِّياً:قصَدَ إليه وتَعَمَّدَ فِعْلَهُ
9 لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف 402 10 نفسه ص 402 نفسه ص 402
12 أي : يوم طويل بعيد ما بين الفجر والمغرب كيوم الصيف
13 لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف 402
14 القُتارُ هو : رائحة الطبخ والموائد
15 كَرَعَ يَكْرَعَُ كَرْعا: شَرِبَ مباشرة بفمه من غير كف أو إناء
16 الهاجرة جمع هواجر : نصف النهار عند اشتداد الحر، لمعجم العربي المُيَسَّرُ ص : 519
17 لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب الحنبلي 403
18 من وصايا الرسول (2. 458 ) طه عبد الله العفيفي دار الحديث القاهرة.