منزلة الـمحبة (2) تجليات محبة الله ورعايته لعباده


في الحقلة الأولى من منزلة المحبة تناول الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله تعالى منزلة المحبة من زاوية كونها جوهراً للقرآن الكريم، وأنها مركبة السائرين إلى الله عز وجل، وفي هذه الحلقة يتحدث عن تجليات محبة الله عز وجل لعباده.

التعلق بالمساجد دليل على المحبة

قال صلى الله عليه وسلم : >سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل ، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه مُعلق بالمساجد…..<(رواه البخاري ومسلم)، لو كان قلبك معلقاً بالمساجد حقا فأَنَّا ذهبت لا تخشى شيئا، لأنه حينما تسمع النداء للأذان يدق قلبك ويطلبك لأنه هناك أو هنا في المسجد معلق، وقد كانت الأمة قبلُ أمة صالحة في أغلب أحوالها ولذلك بَنَت منازلها على أساس المحبة، والذين درسوا ما يسمى اليوم بفن العمران  وشكل تخطيط المدن والمنازل لو أنهم تذوقوا حقيقة تصميم المدن العتيقة التي لم يبْنها النصارى ولا أولاد النصارى تجد فيها ميزة وذلك أن كل الطرقات في المدينة تؤدي إلى المسجد كل الدروب في المدينة مهما تعرجوا يصبون في الجامع الكبير، كل الطرقات تؤدي إلى المسجد وكل المساجد تؤدي إلى الصلاة، لأن المساجد يرفع فيها الآذان وتقام فيها الصلاة، وكل الصلوات تؤدي إلى الله عز وجل و>أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد<(رواه مسلم) وفي الثابت الصحيح أيضا >وإن أحدكم إذا صلى يناجي ربه<(رواه البخاري) سبحان الله العظيم كان قلب المدينة هو المسجد لأن الأمة كانت صالحة وكانت قلوبها معلقة بالمسجد والقلب هو واسطة البدن، >ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله<(رواه البخاري ومسلم) وعندما يكون  قلب المدينة أصلح مكان بالمدينة وأطهر مكان في المدينة فاعلم أن هذه الأمة بخير ولكن حينما تراه على العكس فاعلم بأن الأمة مريضة، حينما تجد أن المسجد قَلَّ من يدخله وقل من يطرقه فاعلم أن خللا حدث للناس، حينما بنتِ الأمة مدنها الجديدة وجب أن تقطع مسافة لكي تجد المسجد، في وقت سابق عندما كنت أذهب إلى الدار البيضاء وأنزل في المدينة التي بناها النصارى أقطع مسافة طويلة جداً لأجد مكاناً أصلي فيه، ولكن إ ذا أردت مقهى فبين كل مقهى ومقهى تجد مقهى، و لم يكن بإمكانك أن تجد مكاناً ترتاح فيه لأن أغلب المقاهي كانت تبيع الخمر.

مع الأسف فالعقلية التي صممت هذه المدن الحديثة ليست عقلية مسلمين، عقلية قلوبها غير معلقة بالمساجد بل علقت بالمقاهي والخمارات فأكثروا من هذه وأقلوا من تلك، والناس تمضي مع هواها {أفرايت من اتخذ إلهه هواه} فمن كان هواه معلقا بالمسجد لا يستطيع أن يبعد عنه،  هذا كله فقط لنشير إلى الأحوال التي تبدلت في الناس من الأسباب الخطيرة المدمرة في المجتمع أن الناس فقدوا المحبة في الله، لأنهم جهلوا بربهم ولو علموا به لما فقدوها، لأن الله عز وجل شهد أن الموحدين من الأمة وسادة الموحدين إنما هم أولوا العلم، وسادة الخشع الخضع إنما هم العلماء كما في قوله عز وجل {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، هؤلاء العلماء إنما المقصود بهم العلماء بالله الذين علموا لله قدره وعرفوه له عز وجل، فمن عرف لله عز وجل قدره بعلم أحبه، وهذه حقيقة التوحيد.

بناء الدين مؤسس على التوحيد

لِمَ كان الدين مبنيا أساسا على التوحيد؟ لِمَ دعا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشرة سنة بمكة إلى التوحيد؟ وإلى التوحيد فقط، أغلب التشريع إنما كان بالمرحلة المدنية، ثلاثة عشر عاما في مكة وعشرة سنين في المدينة، أكثر من النصف كله في تقرير التوحيد للناس حتى إن الخمر لم تُحرم إلا بعد الهجرة إلى المدينة، بل كثير من الفرائض ما فُرضت ولا وَجبت إلا بعد الهجرة إلى المدينة، تشريعات كثيرة أُجلت حتى المرحلة المدنية وبقيت ثلاثة عشر سنة من تاريخ السيرة النبوية وتاريخ القرآن وما أدراك ما تاريخ القرآن، كل ذلك لتأصيل وتأسيس التوحيد في قلوب العباد لماذا؟ ليست القضية فقط قضية تصورات، إذ يعني وجب أن نفهم بأن الله واحد، صحيح هذا مهم جدا وأساس ولكن ليس أن نفهم وحسب بل نفهم ونحس وهذا الإحساس هو الذي مات في القلوب، شهادة أن لا إله إلا الله كما هي فهم فهي إحساس أيضا وهذا هو الذي مات في قلوب كثير من الناس، الآن في المجتمع نجد من يعرف شهادة أن لا إله إلا الله ويشرحها لك جيداً ولكن قد تجده تاركاً للصلاة لأن قلبه مريض، لم يذق ما الإيمان ولا طعم الإيمان ولا حلاوة الإيمان لم يتذوق حقيقة لا إله إلا الله، ولا يذوقها إلا إذا عرف الله، ومعرفة الله تقتضي أن نُطالع منة الله في أنفسنا وفي الآفاق، وأن نطالع جمال أسماء الله الحسنى، لأن الله عز وجل عَرّف بذاته سبحانه وتعالى من خلال كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر أبواب التعريف بالله وهي كثيرة، أسماء الله الحسنى {ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها} أسماء الله التي هي دالة على صفاته والتي بها نعرف لله قدره سبحانه وتعالى، هذه الأسماء الحسنى أنوارها ما تزال تتدفق نعماً لا تُحصى على العباد، مَنْ مَرِضَ يحتاج إلى الله عز وجل الشافي، ومن جاع يحتاج إلى الله الغني الرزاق  سبحانه وتعالى، ومن ضاق به الأمر يحتاج إلى الرحمن الرحيم، في أي شدة كانت فهو سبحانه وتعالى بصفاته وأسمائه يمد العباد بمنن لا تُحصى، حينما تدرك بأن كل كبيرة وكل صغيرة من هذا الكون إنما هي قائمة بالله لا يمكن لشيء في الكون في السماء أو في الأرض أو على امتداد الفضاءات والأفلاك وطبقات السماوات، لا يمكن لشيء في هذا كله من الخلق من الأحياء أو غير الأحياء أبدا أن يقوم بذاته إطلاقا كل شيء قائم بالله، فالله عز وجل القيوم يَخلق ويقوم بالأشياء، يمسك بها أن تزول، رافع السماء بغير عمد سبحانه وتعالى، فهو إذن يمسك كل شيء أن يزول أو يضطرب.

تجليات محبة الله ورعايته لعباده

ومنه تتدفق النعم على العباد من الخيرات والبركات والحسنات، فهو سبحانه لا يفعل ذلك إلا محبة في عباده، إلا لطفا بهم، إلا رحمة بهم، يطعمنا رعاية، ويسقينا رعاية، يرعانا سبحانه وله المثل الأعلى أشد مما ترعى الأم ابنها الوليد، والرعاية نوع من العناية الخاصة فالأم  وهي ترعى الطفل الصغير تقوم بكل ما يصلحه وهي خائفة عليه فرحة به لأنه لطيف وأعضاؤه طرية يمكن لأي حركة أن تعرضه للأذى بسرعة، فالأب يرعى ابنه والأم ترعى ابنها محبة فيه وهذه هي الرعاية، والله عز وجل أرعى لعباده من الأم لابنها الوليد فحينما يسقيك فرعاية ويُشرق الشمس على العباد رعاية ولولاه لما أشرقت، ويغربها سبحانه وتعالى على العباد رعاية ويدير الأرض حول نفسها وحول الشمس لتنضج الثمار للعباد رعاية، وليقع ما يقع من زمان ومن ابتلاء بالعباد رعاية، هذا إله ودود ولذلك كان من أسمائه الحسنى الودود وهي صيغة مبالغة من الوُدّ، قال العلماء : الود هو خالص المحبة، عندما تمخض المحبة وتخرج منها الزبدة تلك الزبدة أسميتها : الوُدّ والله عز وجل ودود سبحانه لأنك تذنب ما شئت وتأتي ربك بقراب الأرض خطايا بل قد تبلغ خطاياك عنان السماء، ظلمات بعضها فوق بعض فإذا لقيته يوم القيامة لا تشرك به شيئا غفر لك، سبحانه وتعالى إن شاء، قال : >ولا أبالي< فهذا إله ودود محب لعباده يرعاهم رعاية، وحينما تقرأ القرآن الكريم، وأنعم به كلاما تكلم به الله عز وجل، اقرأه وكأنما يخاطبك أنت  لأن الله عز وجل أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآنالكريم إلى الناس وأنت واحد من الناس، ولا يخدعنك ذلك الإحساس الذي يزرعه إبليس في الإنسان كأن القرآن لا يعنيك أنت، ولكن القرآن يتكلم مع الناس جميعاً وأنت واحد من الناس، والإنسان عنده نفسية كسولة، عندما يكون داخل جماعة مكلفة بعمل ما فإنه يتكل على الآخرين فلو أنك كلفت خمسة أفراد بعمل لابد وأن تجد فيهم واحداً يستغل وجوده مع الآخرين، فيغش في عمله، ولكن عندما تعينه شخصياً فإنه يحمل الهم ويجتهد.  وهذا الإحساس هو إحساس سيئ شيطاني لأنه يجعل الإنسان يتكاسل على الواجب ويأتي به إبليس لعنه الله للإنسان في العبادة وفي التعامل مع القرآن الكريم خاصة فيقول هذا كلام الله نزل على رسوله صلى الله عليه وسلم لم ينزل علي أنا، وخوطب به الناس وإن أنا إلا واحد من الناس، فتحس وكأن الثقل ليس عليك، وهذا غلط في العقيدة أولا، وغلط في الشريعة، أما في العقيدة فالله سبحانه وتعالى لا يخاطب الناس بالتناوب وإنما الإنسان القاصر هو الذي لا يمكنه أن يحدث شخصاً بعينه وهو في جمع من الناس بكلام في نفسه يخصه وفي نفس الوقت يحدث به الناس أجمعين، لأن هذا الشخص غير متعدد أولا وثانياً ليس للمتحدث القدرة بأن يجعل من اللحظة الواحدة لحظتين أو ثلاث أو أربع لحظات هذا أمر غير ممكن، ولكنه في حق الله عز وجل ممكن لأنه لا تحكمه اللحظات فهو عز وجل غير خاضع للزمان بل هو حاكم على الزمان والمكان سبحانه وتعالى فإذا كان ذلك كذلك فهو قدير عز وجل على مخاطبتك أنت وأنا وسائر الخلق أجمعين في الوقت الواحد ألا ترى أنه يسجد له كثير من الناس والشجر والدواب والنمل والحوت في البحار والكواكب وسائر الخلق، وكل يدعو بدعائه في خاصة نفسه، كل طبقات الخلق، كل واحد يسأل الله بما هو في حاجة إليه {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني} كل يرفع دعاءه إلى الله عز وجل مستجيرا وطالبا وراغبا وراهبا والله عز وجل يسمع الجميع في الوقت الواحد ويعطي الجميع في الوقت الواحد لا يشغله أحد عن أحد، إنه الله عز وجل! وهذا مفهوم من مفاهيم الألوهية والإنسان لا يقاس بالذات الإلهية {ليس كمثله شيء}  سبحانه وتعالى فوق الجميع قال النبي صلى الله عليه وسلم : >لا تفكروا في الله فإنكم لن تقدروه قدره< لأن تخيل الذات الإلهية مستحيل ولأن النسبي قاصر عن الإحاطة بالمطلق كما يقول علماء المنطق. أنت نسبي ضعيف عندك بداية وعندك نهاية، عقلك عنده بداية وعنده نهاية، خلايا الدماغ عندك معلومة محسوبة، ما هو ممكن أن تستوعبه بعقلك محدود عندما يمتلئ يتوقف عن الاستيعاب فكيف يمكن أن تتفكر في الله؟ والله لا يحيط به شيء بل هو عز وجل يحيط بكل شيء، ولا يمكن أبدا للجزئي الضئيل النسبي أن يحيط بالكلي المطلق والله  سبحانه وتعالى مُنزَّه عن كل وصف إلا وصف الكمال والجلال، محيط بكل شيء إذن إذا كان الأمر كذلك فالله عز وجل بعجيب قدرته يرعى جميع الخلق، ويسمع لجميع الخلق، ويعطي جميع الخلق، لا يشغله أحد عن أحد هذا إله كفيل وجدير وقابل لأن يُحب وتهفو إليه القلوب، والعبادة هذه حقيقتها حينما تشهد أن لا إله إلا الله فهذه حقيقة التوحيد والذي يظن أن الله يستمع لعباده بالتناوب فإنما أخطأ في التوحيد وهو خطأ شريعة أيضا لأنه مطلوب منك أنت من الناحية العملية أن تطلب الله عز وجل على كل حال وأن تتجه إليه في كل أمرك في عسرك وفي يسرك وإذا ما أخطأت في مفهوم التوحيد فإنك سوف تخطأ في العمل الشرعي، إذن القائد الذي يقودك إلى ربك هو محبته سبحانه وتعالى ولا يُمكن أن تحبه إلا إذا عرفته وإنما تعرفه بأسمائه وصفاته، وكتابُه دال على ذلك كله.

فريد الأنصاري رحمه الله تعالى

——-

(ü) منزلة الإنابة  من حلقات منازل الإيمان التي ألقيت بمسجد الجامع الأعظم بمكناس وهي مادة مسجلة على شريط سمعي .

أعدها للنشر : عبد الحميد الرازي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>