أثبت التاريخ أن من عوامل نهضة الأمم تربية الأجيال على الثقة القوية في مشروع الأمة، والإيمان الصادق بمقوماتها الفكرية والثقافية، والتنافس في الامتثال لروح الأمة، كما أثبت التاريخ في المقابل أن كل أمة أصيبت بداء الهزيمة النفسية والحضارية والفتور الإيماني لدى أبنائها بقضيتهم وتنافست في المتع والملذات الثانوية إلا وفقدت حظها من التقدم والريادة الأممية، وأصبحت عرضة للتآكل من الداخل، وتسلط الخصوم عليها من الخارج.
وتكفي نظرة في سنن الله في نهضة الأمم القديمة والمعاصرة التي تبوأت مكانها في قيادة العالم، وأقرب مثال على ذلك أمم العالم المعاصر القائدة أو التي بدأت تطل برأسها مزاحمة قادة العالم ومنافسة لهم على الريادة، فهذه الأمم من بين ما ركزت عليه استنهاض همم مواطنيها على التشبث بروحها والتربية على حب معالي الأمور وأنفعها، خاصة التربية على حب العلم والعمل، والتشبع بقيم التحدي والصبر، والتدرب على فنون الإدارة والتخطيط والبرمجة للوصول إلى الهدف، وتضافر جهود جميع مكونات الأمة -سياسيين وأدباء ورجال التربية والتعليم وعلماء الأمة المتخصصين في كل مجال تحتاجه الأمة- في الإيمان بالقضية، والتواصي بها، والتعاهد على التضحية من أجلها.
ولا شيء ينال من غير توفر الهمة العالية والاجتهاد القوي، قال الشاعر:
فقل لِمُرَجِّي معالي الأمور
بغير اجتهاد: رجوتَ المحالا
إن الأمم تكون في نهضتها أحوج ما تكون إلى استنفار أبنائها وتقوية هممهم وشحذ عزائمهم، وتربيتهم على المبادرة الحرة وعلى الإيمان القوي بالقضية، وعلى التفاني في التضحية في سبيلها بالغالي والنفيس.
واستنهاض همم الشباب فن تربوي دقيق، ومؤثر قوي في الإصلاح والتغيير يحتاج أولا إما إلى متخصصين في التربية وفن إعداد القادة والأبطال، أو إلى هواة وأصحاب مواهب في هذا المجال يحتاجون إلى الرعاية وإحسان التوجيه والاستثمار.
ومما نحتاجه في استنهاض الهمم :
1- تشجيع الأبناء على التشبث بالقيم الفكرية والفنية والخلقية للأمة الإسلامية، وعلى رأس ذلك حب القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، والتنافس في تعلم ذلك كله وتعليمه، والقيام بكل ما يلزم لذلك من واجبات.
2- تقوية إيمانهم بها، وتشجيعهم على اكتساب العلوم والمعارف النافعة، وتنمية مواهبهم وطاقاتهم في الاتجاه الإيجابي.
3- مكافأة المجتهدين والمتفوقين واحتضانهم، ورعايتهم في مؤسسات خاصة، وتوفير ما يلزمهم من معدات ومدرسين أكفاء ومتخصصين في علوم التربية والتوجيه من الغيورين ومتابعتهم حتى النهاية لتوظيفهم واستثمارهم في خدمة البلاد.
4- وصلهم بنماذج من ذوي الهمم العالية من العلماء والمبدعين والمخترعين والقادة والأبطال وخصائصهم النفسية، وظروفهم الاجتماعية، ومنجزاتهم.
5- إجراء مسابقات ومباريات هادفة في جميع التخصصات وبشكل دوري وفي جميع مراحل التعليم.
إن التربية على علو الهمة وقوة العزيمة واستقلال الإرادة هي أساس كل نهضة وقوام كل انبعاث جديد، بل هي الخطوة الأولى في مشروع تكوين جيل من الأقوياء الأمناء، المجدين والمجتهدين والمتنافسين في الخير والنفع، جيل من العاملين الدؤوبين، الذين لا يشتكون من المصاعب ولا يتراجعون في المصائب، الذين يجمعون بين الأمل والعمل، بين الصبر على المكاره والثقة في تحقيق الغايات بروح إيمانية عالية.
إن عالي الهمة وقوي العزيمة لا يقنع بسفاسف الأمور ولا يوثر اللذات العاجلة ولا السافلة، ولا يقنع إلا بما يجلب الشرف له ولأمته، ولا يقبل على عمل بغير تخطيط ولا تدبير مسبق.
إن الأمم الضعيفة ليست في حاجة إلى أموال ولا إلى ثروات أكثر من احتياجها إلى استنهاض همم أبنائها والاشتغال بتنشئتهم على قيم النهوض والتحدي وروح المبادرة، والثقة في قدرات الذات، والوعي بالحاجة إلى التطور والتطوير، والقابلية للصلاح والإصلاح، وحب العلم والعمل، وروح التضامن والتناصر والتناصح والتآزر، والنظرة بتفاؤل إلى الغد والمستقبل.
وإذا ألقينا نظرة على نوع التربية التي دعا إليها القرآن الكريم ومارسها الرسول صلى الله عليه وسلم، نجدها تركز على التربية على استنهاض الهمم وتقوية العزائم ويصعب حصرها في هذا المقام الضيق، ولكن يكفي التنبيه إلى المواطن التالية:
يقول الله تعالى في حث المؤمنين على الثقة بأنفسهم وترك ما يقعدهم عن المعالي: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم صادقين}.
- ويقول تعالى في الأمر بالصبر -لما في الصبر من قوة اليقين بتحقق النتائج مهما بدت بعيدة المنال- : {اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله}، ويأمر نبيه بالصبر قائلا: {واصبر كما صبر أولو العزم من الرسل}.
- ويقول جل وعلاآمرا بوجوب الإعداد للعدو مهما كانت قوته: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل}.
- ويقول جل وعلا في استنهاض همم المسلمين رغم قلة الزاد والعدد وبُعد إمكان النصر: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنهض همم المسلمين فيقول:”المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير” ثم يبين سبل اكتساب هذه القوة، وهذه الهمة العالية فيقول: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان))(رواه مسلم).
كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم رغم أنه كان محفوظا من ربه، ومعصوما، وموعودا بالنصر لم يقصر في اتخاذ الأسباب وتربية الصحابة الكرام على مباشرة الأسباب والثقة في الله وحسن التوكل عليه والصبر وتحمل المكاره والإيمان بالمستقبل.
كما أن الرسول عمل منذ بداية الدعوة على تكوين جيل من الصحابة الأقوياء في الإيمان، وفي البذل والتضحية، وفي الجد والاجتهاد، لا يعرف اليأس والخور إلى نفوسهم طريقا، ولا تجد الهزيمة إلى قلوبهم مدخلا، وكان صلى الله عليه وسلم يتدخل في كل حين لمعاجة مشكلة اليأس والفتور فيقف صلى الله عليه وسلم مستنهضا الهمم وباعثا للأمل في النفوس ومذكرا بوعد الله للأمة، فتتغير بوصلة النصر جهة المسلمين.
فأين أمتنا من هذه التربية القرآنية، وأين هي من هذه التربية النبوية؟؟
فهل ما ينشره الإعلام من أفلام خليعة وصور وبرامج وضيعة، وأفكار نشاز يساعد في اكتساب قيم الاعتزاز بالذات وعلو الهمة ومساعدة البلاد في الرقي إلى المراتب العليا في الخير؟
وهل ما تسمح به الجهات الرسمية من مهراجانات الغناء والعري والسكر والعربدة، سيمنح هذه البلاد رجالا ذوي همم عالية وطموحات تخدم البلاد والعباد؟
وهلما يشيع في أبواب المدارس والمؤسسات التعليمية من مظاهر الانحراف والانحلال الخلقي والهزيمة النفسية وجد له من يحسن تدبير أمره؟
وهل البلاد في حاجة إلى الزيادة في عدد المقاهي والحانات والخمارات والملاهي الليلية أكثر من حاجتها إلى إنشاء مراكز التأهيل الاجتماعي ورعاية الموهوبين، والتوجيه والإرشاد ودور القرآن ومؤسسات التعليم الموازي؟
وهل ما ينتشر في المجتمع من مظاهر اليأس والتيئيس والجهل والخرافة والشائعات المحبطة والمثبطة، وكل أنواع المخدرات وجدت له الحلول الكفيلة بإنقاذ البلاد من طوفان التراجع والخواء والفشل وكل مظاهر الكسل واليأس؟
وهل ما يتصف به كثير من المواطنين والمسؤولين من صفات اللامبالاة وضعف الإحساس بالمسؤولية والجدية والاجتهاد إلا انعكاس لغياب التربية على علو الهمة، وغياب برامج اجتماعية لاستنهاض الهمم وتكوين الأطر القوية الفاعلة؟
إن الأمة بحاجة إلى أبنائها، وإلى استثمار ما حباهم الله من طاقات ومواهب دفينة وقدرات عالية، والتي إن لم تستثمر وتنمى انقلبت سيفا قاتلا في وجه الأمة، لذا فمن واجبات الوقت على الأمة صرف جهودها إلى التربية الحقة في مجال الأبناء والتربية على علو الهمة، وقوة الإرادة، وصدق الاجتهاد وسلامة التفكير، وحسن الخلق، وإنشاء مؤسسات لاحتضان أصحاب المواهب والطاقات، وتنميتها وتهيئة الجو المناسب لتوظيفها، وتسخيرها في ما ينفع العباد ويرفع البلاد.
د. الطيب الوزاني