رسائل على طريق النهوض


 تمهيد

الحياة الآن لم تعد كما كانت قبل عشرات السنين.. إن التسارع في مفاصل الحياة على صعيد الفرد أو الجماعة تسارع لا قبل لنا باللحوق به.. كل يوم يمرّ من حياتنا يزيد في أعمارنا ولن يعود.. ثم تمرّ أيام وأيام وتنتهي كما انتهت أيامنا الماضية.. لكن الحصيف البليغ من يهيئ نفسه لغده، من يجعل من أيامه القادمة أياماً حافلة بالعطاء، يعيشها كأنه ما زال في بداية الطريق.. ينجز ويضيف.. حتى إذا امتدت الأيام وطال أمد العمر والآمال، لم تأكله الحسرة على ما فات.. أمريكا تفكر أن تكون أبعد مسافة بين دولة ودولة بعد عشر سنوات لا تتجاوز الساعة أو الساعة والنصف عبر الجو.. فمثلاً، المسافة التي تقطعها الطائرة الآن بين الأردن وأمريكا تبلغ اثني عشر ساعة تقريباً، قد تصبح بعد عشر سنوات ساعة إلا ربعاً فقط..

اسعوا إلى الأمجاد بالعمل الدؤوب:

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ((ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي)).

لذا أقول للشباب اليوم في هذا العمر الفتي: اهتبلوا فرص العمر واقتنصوها، لا ترضوا بالقليل، ولا بفتات الموائد، ودعوا التسويف:

كن صارماً كالوقت فالمقت في (عسى)

وخلّ (لعلّ) فهي أكبر علة

لترنو أعينكم إلى الأمجاد والإبداع.. على الصعد كافة: الشخصية، والأسرية، والمجتمعية، والعلمية، وفي مجال الاختراع. نجم الدين أربكان -رائد البعث الإسلامي الحديث في تركيا – أول وأصغر بروفيسور فيها… كان عمره آنئذ (29) عاماً.. له براءة اختراع في تطوير محركات الدبابات بأنواع الوقود.. أنشأ الصناعات الحربية، وطوّر السكك الحديدية.. هذا الرجل رحمه الله كان شامة في سماء الأناضول.. خدم دينه بعلمه.. وخدم شعبه بذكائه، وكان لا يتحدث إلا عن مجد الأمة وضرورة استعادته من جديد بعد إسقاط خلافة بني عثمان.. هذا الرجل بنى قوة في العدد، قوة مجتمعية، امتدت أركانها طولاً وعرضاً، فأصاب خيرُها خلقاً كثيرين.. فإلى جانب الاقتصاد القوي لم يغفل الإعلام، فأنشأ الفضائيات التي تروّج لفكر الأمة وعقيدتها وسط محيط يزخر باللادينية، ويطفح بالفساد والمحسوبية، ويضجّ بالإقصاء والاحتكار.. هو أربكان.. صنع حراكاً عظيماً ما زالت آثاره بادية في بلده حتى الآن.. رجل سعى إلى المجد فلبى نداءه.. هذا نموذج من النماذج الناجحة في وطننا الإسلامي.. جهد فردي أثمر فكان له ما أراد.. ألم يقل الرافعي: “إن لم تزد شيئاً على الدنيا، كنت أنت زائداً عليها”؟!

إذن، السعي إلى المجد -أيّاً كان شكله- أمر قريب المنال، لا يقتصر على كبير دون صغير، ولا صغير دون كبير؛ فكثير من كبار السن من بدأ يصنع المجد بعد الأربعين، والمجد هذا لا يحتاج إلا إلى أمرين متلازمين هما اتخاذ الأسباب والتوكل على الله، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : {فإذا عزمت فتوكل على الله} وقال له أيضا: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}(المائدة: 67). فالفعل واتخاذ الأسباب ثم التوكل على الله هما الأساس الذي يضمن الوصول.. ألم يقل عُقْبة بن نافع -فاتحُ المغربِ – يوماً: لو علمت أن برّاً وراء هذا البحر لخضته في سبيل الله؟!

يقول (ألبرت أينشتاين) : “الشيء الوحيد الضروري لانتصار الشر في العالم، هو فقط ألا يفعل الأخيار أي شيء”.

 الإتـقـــان:

ولنعلم جميعاً -شيباً وشبّاناً- أن كل شيء يحتاج إلى صناعة.. وأول هذه الصناعات: صناعة الحياة.. والدعوة إلى الله صناعة.. والإعلام صناعة.. والتربية صناعة.. والتعليم صناعة.. والاقتصاد صناعة.. والنفوس صناعة.. والفكر صناعة.. وهذه الصناعة هي إتقان العمل.. فليس كل من يحمل اسم الإسلام داعية يعي طرائق البلاغ.. بل الداعيةُ من يحسن عرض دعوته بالحكمة قبل الموعظة، والحكمةُ وضع الشيء مكانه الصحيح.. فمن ملكها ملك الموعظة واستقرت كلماته في القلوب دون واسطة، واستوى نوره على النفوس دون جهد،  مع توافر بلاغة وأناة..

وليس كل من امتطى ظهر الإعلام صار إعلاميّاً بارزاً.. فالإعلام صناعة بحاجة إلى دربة علمية وخلفية ثقافية؛ لأن الإعلامي القدير إعلامي محاور متعدد الثقافة..

وليس كل من تصدّى للتعليم صار معلّماً.. فالتعليم صناعة استراتيجية يقوم بتكوين العقل، وصياغة النفس، وبناء الشخصية العلمية، وتشكيل السلوك، والخروج من الجمود، وإطلاق الطاقات، وتوفير أسباب الإبداع.

كما ليس كل مغنٍّ أو منشد يصلح أن يكون مطرباً أو منشداً، فهناك كثيرون سكوتهم أولى وأجدى!

وهكذا، فالوصول إلى المجد والسؤدد يحتاج إلى إحسان العمل وإتقانه، ولا غرابة في أن ينال هذا (المتقنُ) حبَّ الله وحب عمله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن اللهيحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه))(رواه الطبراني، وصححه الألباني).

لقد قال الأوائل: إنما الناس أحاديث، فإن استطعت أن تكون أحسنهم حديثاً فافعل. ولا يكون الإتقان إلا بالصبر:

لا تحسب المجد تمراً أنت آكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

 العـربية كـأسـلـوب للـنـهـضـة

علمتني اللغة العربية حب الحياة.. لا حبّ زينتها، وإنما حبُّ من يسعى إلى بذر الحب في النفوس وفي القلوب بل وفي الجمادات، وإنما حبُّ من يسعى إلى غرس المعرفة والعلم في العقول.. إن اللغة العربية التي أهملناها، يقول فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ((تعلُّم العربية يزيد في العقل والمروءة)) وأنا أقول: من ملك زمام العربية ملك كل شيء في هذه الحياة.. وليس صحيحاً أن العلوم المعاصرة ومصطلحاتها الأجنبية تقصر دونها العربية، ففي دمشق -ومنذ عشرات السنين- تُدرَّس هذه العلوم بالعربية وبنجاح منقطع النظير.

فلغتنا تستوعبمصطلحات عصرنا التقنية أيما استيعاب، وتحتويها بما حباها الله من غنى مفرداتها، وغنى تعبيراتها، وغنى توصيفاتها، وغنى شموليتها للمكان والزمان، وإلى أن تقوم الساعة.

بل إن هناك كلمات -كما يقول الدكتور عدنان النحوي- مثل (آية)، وهي “لفظة معجزة بنفسها، توحي بالعلو والسموّ، يترجمونها بالإنجليزية (sign) وشتان بين المعنيين”. “وكلمة (الرحمة) تترجم حيناً (mercy) وحيناً آخر (Kindness)، ولكن كلمة (الرحمة) تظل أغنى معنىً وأندى ظلالاً وأوقع جرساً”.

و”كلمة (التقوى) وما يشتق منها: المتقون، اتقوا، فإنها تحمل من المعاني والظلال ما لا يمكن حصره في اللغات الأخرى بجُمل وشروح”.

لماذا كان “الإعجاز اللغوي” -إذن- أهم أنواع الإعجاز وأبرزها؟ لأن الإعجاز اللغوي يأتي في جميع سور القرآن وآياته، أما أنواع الإعجاز الأخرى فهي ليست كذلك. مثال: {وإذ يرفع إبراهيم القواعدَ من البيت وإسماعيل}(البقرة: 127)، جاءت كلمة (إسماعيل) متأخرة ولم تأت بعد كلمة (إبراهيم) مباشرة، للدلالة على أنهما لم يكونا متساويين في الجهد والقدرة على البناء، فـ (إبراهيم) رجل مكتمل الرجولة، بينما كان (إسماعيل) صبيّاً يساعده.

إن العربية لغة التواصل الحقيقية بين العرب بعضهم بعضاً، وبين عدد كبير من بلاد المسلمين.. ولم لا، فهي لغة القرآن الذي لا يقرؤه الأعجمي -فضلاً عن العربي- إلا بها.. والعربية جسر واصل بين تاريخنا وبين عالمنا المعاصر.. لم تضعف على ألسنة العرب إلا حين ابتليت بلادنا بالأجنبي يحتلها ويستنزف ثرواتها ويتآمر على ثقافتها ودينها، وينشر ثقافته على حسابها.. لذا لا عذر لأحد الآن -أفراداً وجماعات وحكومات- أن يفرط بالعربية، وأن تُمزَّق أستارُها بحجة المعاصرة وتشعب المصطلحات!

اللغة العربية هي لغة الجمال.. الجمال الحقيقي.. اقرؤوا أيها الناسُ القرآن.. تجدوا الجمال في ألفاظه.. عن الإنسان، والشجر، والدواب، والسماء، والأفلاك، والأرض، والبحار، والجمادات، وكل ما يمت إلى الحياة والأحياء.. وانظروا كيف استطاع الأدباء أن يعبروا عن دواخلنا، عن كوننا، التعبيرَ الجميل، المزركشَ بالألفاظ الرائعة، والمزيّنَ بالمعاني الرائقة.

اسمعوا إلى الرافعي وهو يصف القرآن يقول: “ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة.. ومعان بينا هي عذوبة ترويك من ماء البيان، ورقة تستروح فيها نسيم الجنان، ونور تبصر به في مرآة الإيمان وجه الأمان”.

لغتنا العربية أسلوب بديع وكنز ثمين.. إنها لغة الحب.. انظروا كيف تأثر الأدباء غير العرب بالقرآن ولغته، فهذا الأديب الألماني الكبير (جوته) يقول عن القرآن: إنه أغنى كنز.

هذا الرجل تأثر بدلائل العظمة في مخلوقات الله، تأثر بصغر الكائن الذي ضُرب به المثل في قوله تعالى: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها}(البقرة: 26)، فنجده يضرب المثل بشيء مشابه في الصغر وهو ريشة طاووس، فيقول:

رأيت بدهشة وابتهاج

ريشة طاووس بين صفحات القرآن

مرحباً بكِ في هذا المكان المقدس

أغلى كنز بين بدائع الأرض

وهو يبرر هذا التمثيل بريشة الطاووس فيقول:

لم لا أصنع من الأمثال ما أشاء

ما دام الله قد ضرب مثل البعوضة

للرمز على الحياة

وتوقف (جوته) أمام قوله تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله}(البقرة: 115)، فألهمته هذه الآية هذه المقطوعة الشعرية التي يقول فيها:

لله المشرقُ.. لله المغربُ

والأرض شمالاً.. والأرض جنوباً

تسكن آمنةً.. بين يديه

وتأثر (جوته) بالأسلوب العظيم الذي خاطب به القرآن الكفار، الذين يرفضونه ويشككون فيه ويقللون من شأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته.. يقول تعالى: {من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ}(الحج: 15)، فجعل ينشد:

النبي يقول :

إذا اغتاط أحد من أن الله قد شاء

أن ينعم على محمد بالرعاية والهناء

فليثبت حبلاً غليظاً بأقوى عارضة في قاعة بيته

وليربط نفسه فيه

فسوف يحمله، يكفيه

ويشعر بأن غيظه قد ذهب.. ولن يعود!!

وغير (جوته) كثيرون، أدلوا بدلوهم في بيان جمال أسلوب القرآن.

أنا عربي أحب اللغة العربية، لقد علمتني ودفعتني لأقول:

الــقــرآن

- “القرآن كنز الكنوز.. نور الله وسرُّه.. خضع له الجبابرة.. وتطامن لعلوه القياصرة.. فكان فرعون في ثبج الأمواج الطامرة.. فانقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة”.

أحمد طاهر أبوعمر

مدير تحرير مجلة الفرقان الأردنية

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>