إن المؤمن العاقل الفطن؛ هو الذي يغتنم الفرص التي لا تتكرر حتى يخرج من هذه الدنيا برضا ربه عز وجل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت))(أخرجه الترمذي وغيره عن شداد بن أوس). ولهذا فإن الصحابة -رضوان الله عليهم- لما استمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب و استشعروا عمقها و شمولها قالوا: (كأنها موعظة مودع فأوصنا) فاغتنموا الوداع لاستجماع وصية قد لا تتكرر مناسبتها،إن هذا يدل على أن استشعار الوداع يعطي دافعا قد لا يتوافر في عدمه، و من هنا ندرك السر في نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: ((إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع))(ابن ماجة وأحمد).
تصوروا وتخيلوا أيها الإخوة والأخوات أننا سنصلى آخر صلاة، ثم سنودع الدنيا بعدها، كيف ستكون في تمامها وخشوعها وركوعها وسجودها؟ فوالله الذي لا إله غيره؛ ستكون في شدة الإخلاص والخشوع والصدق مع الله.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا بهذا الهدي -والله- أعلم كيف نتخلص من آفة تحول العبادة إلى عادة، هذا و الله عين ما أصابنا أيها الإخوة الكرام حيث أصبح صيامنا وصلاتنا بل وحجنا وعمرتنا عادة قد اعتدنا عليها، ففقدنا بذلك حلاوة العبادة، فلماذا لا نستحضر روح الوداع في عباداتنا كلها؟ خاصة أن الموت يأتينا بغتة ولا نعلم زمانه ولا مكانه.
إن رمضان يحل علينا ضيفا مضيافا، يكرمنا إذا أكرمناه، فتحل بحلوله البركات و الخيرات و النفحات فهو ضيف لأنه يأتينا مرة في السنة، لكنه مضياف لإتاحته لنا الفرصة لكسب الحسنات و الأجر الجزيل، وربما يكون الواحد منا في ضيافته للمرة الأخيرة، فهلا أكرمناه، وتعرضنا لنفحاته، واغتنمنا فرصة وجوده معنا.
إن استقبالنا لرمضان المبارك استقبال المودعين، لا ينافي استقبالنا له ونحن فرحين مستبشرين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه برمضان بشرى التشوق لبركاته، والتشوف لرحماته في كل ساعاته وأوقاته، فيقول لهم: ((قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، فيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر؛ من حرم خيرها فقد حرم))(رواه أحمد)، وقال صلوات ربي وسلامه عليه: ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))(متفق عليه)، وقال: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))(متفق عليه)، وقال: ((كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف يقول الله عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي..؛ (متفق عليه)، وقال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))(البخاري).
لنتأمل أيها الإخوة و الأخوات في هذه الكلمات النبوية المملوءة بالمعاني، ولنتخيل أن فرصة شهر هذه صفاته ونفحاته؛ جاءتنا فلم نغتنمها على أمل أنها ستعود و تعود، و لم تكن عبادتنا فيها عبادة مودع حتى فاتتنا أوقاتها، ألن نستحق وقتها أن نوصف بأننا محرومون؟
لقد كان سلفنا الصالح يترقبون الشهر الكريم راجين تمامه لإتمام صيامه وقيامه متقلبين في أيامه بين الطاعات والعبادات فكان دعاؤهم : ((اللهم سلمنا إلى رمضان، وسلم لنا رمضان، وتسلمه منا متقبلا)).
إن هذا الاستعداد الصادق لاستقبال رمضان، وحسن ضيافته، يدل على قلوب حية تعي عن الله كلماته في تعظيم الشهر، وتحمل عن الرسول صلى الله عليه وسلم هديُه فيه، يقول ابن رجب رحمه الله: (بلوغ شهر رمضان و صيامه نعمه عظيمة على من أقدره الله عليه، ويدل عليه حديث الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم ثم مات الثالث على فراشه بعدهما، فرؤي في النوم سابقا لهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((أليس صلى بعدهما كذا وكذا صلاة، وأدرك، رمضان فصامه، فوا الذي نفسي بيده،إن بينهما لأبعد مما بين السماء والأرض))(رواه أحمد) ولله در من قال:
أتى رمضان مزرعـة العبـاد
لتطهير القلوب من الفساد
فأد حقـوقـه قـولا وفـعــــلا
وزادك فاتـخـذه للـمـعـــــاد
ما زرع الحبوب وما سقاها
تـأوه نـادما يـوم الحـصــــاد
هكذا يجب علينا أن نستعد ونستقبل رمضان بهذه الروح القوية وبهذا الإيمان الصادق، حتى نعيش حلاوته وطلاوته ولكن الغريب في الأمر أن المسلمين في هذا الزمان؛ أو من ينتسبون إليهم بعيدون كل البعد عن هذا المنهج النبوي، فهم كذالك يستعدون لرمضان ويستقبلونه؛ ولكن على طرازهم الجديد المملوء باللهو واللعب!! فهم يستقبلونهم بأنواع المأكولات و المشروبات!! والأغاني والمسلسلات!! والأفلام والمسرحيات!! والليالي والسهرات!! وقتل الساعات في اللهو و المحرمات!!
وكأن هذا الشهر المبارك -شهر القرآن- إنما هو شهر لعب ولهو، ومتعة وتفريج للهموم – كما يظنون- ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فليكن صيامنا -أيها الإخوة والأخوات لهذا العام- صيام العارفين بالله، ولنحقق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من صام رمضان إيمانا و احتسابا)) حتى ننال الجزاء العظيم وهو مغفرة الذنوب.
فاللهم لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالصيام والقيام..
سليمان نمير