توبة العبد في رمضان


أخي المسلم يا من تقيدني وإياه المعاصي، ها قد أقبل علينا شهر مبارك كريم يفسح الله تعالى لنا فيه فرصة للأوبة والتوبة، لنلوذ برحابه، ونتقي بعفوه وغفرانه شدة عقابه. فرمضان موسم تكفير الذنوب، والصبر والتزكية، والشكر والدعاء المستجاب، وشهر مضاعفة الأجر.. إنه شهر غنم للمؤمن ونقمة للفاجر وشهر تربية للمجتمع.

قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))(أخرجه البخاري ومسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم : ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))(أخرجه البخاري ومسلم) فلنبادر ما دامت نفوسنا في وقت المهلة، ولم يباغتها هادم اللذات ومفرق الجماعات على حين غفلة، فيصير كل منا إلى قول:”يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الخاسرين}(الزمر : 56).

لقد فرض الله عز وجلالصيام ليتحرر الإنسان من سلطان غرائزه، وينطلق من سجن جسده، ويتغلب على نزعات شهوته، {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}(البقرة : 182) فليس عجيبا أن يرتقي روح الصائم ويقترب من الملأ الأعلى، ويقرع أبواب السماء بدعائه فتفتح، ويدعو ربه فيستجيب له، ويناديه فيقول: “لبيك عبدي لبيك..” وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر والإمام العادل، ودعوة المظلوم…))(رواه الترمذي وحسنه، وأحمد وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما)

إن الله تعالى جعل هذا الشهر المبارك فرصة للقلب لتنزاح عنه غشاوة الغفلة وران القسوة، وللروح لتتحرر من ضيق الطين، وتتمدد في آفاق التسبيح والتحميد والتكبير..وللجوارح لتحفظ من الزيغ والطغيان، وتفيء إلى السلامة والطمأنينة والأمان. وفرصة للنفس لتنطلق من قيود الشهوات وعقال النزوات.. وتتزكى بالصبر والنصب، وتؤوب إلى الباري جل وعلا في ذل وانكسار ورهب ورغب..

ذلكم هو رمضان الأبرك، لم يشرعه المولى عز وجل في الإسلام مشقة للناس، ولا تعسيرا عليهم، وهو سبحانه القائل: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}(البقرة : 185)، وإنما فرضه تدريبا للمسلم لينهض للكمال الأعلى ، ويعكف على مرضاة الله تعالى مهما تحمل من العنت ومكابدة الناس..فالصيام تعبد بالصبر و{إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}(الزمر : 10)، إنه “مشقة محدودة لتدريب الناس على المعنويات العالية، وتعليمهم كيف يفعلون الخير ويتركون الشر، أو كيف يعشقون الحسن ويكرهون القبيح، أو كيف يسارعون إلى مرضاة الله ويفرون من مساخطه”(1).

ولما كان الشر معجونا بطينة  الآدمي قلما ينفك عنه، وإنما غاية سعيه أن يغلب خيره شره حتى يثقل ميزانه فترجح كفة حسناته. وجب على المذنب إن كان جرى عليه ذنب إما عن قصد وشهوة غالبة أو عن إلمام بحكم الاتفاق أن يبادر في هذا الشهر العظيم  إلى التوبة والندم، والاشتغال بالتكفير فيدرأ بالحسنة السيئة فيمحوها فيكون ممن خلط عملا صالحا وآخر سيئا. فالحسنات المكفرة للسيئات إما بالقلب، وإما باللسان وإما بالجوارح، {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه، إن الله غفور رحيم}(المائدة : 39). فأما بالقلب فليكفره بالتضرع إلى الله تعالى في سؤال المغفرة والعفو. ويتذلل تذلل العبد الآبق ويخفض من كبره فيما بين العباد، وكذلك يضمر بقلبه الخير للمسلمين والعزم على الطاعات. وأما باللسان فبالاعتراف بالظلم والاستغفار فيقول: “رب ظلمت نفسي وعملت سوءا فاغفر لي ذنوبي”، وكذلك يكثر من ضروب الاستغفار المأثورة. وأما بالجوارح فبالطاعات والصدقات وأنواع العبادات، وبالجملة فينبغي أن يحاسب نفسه كل يوم ويجمع سيئاته ويجتهد في دفعها بالحسنات، قال صلى الله عليه وسلم : ((كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)).

ومن ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف وتمنى على الله عز وجل الأماني كان بين خطرين عظيمين: أحدهما أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى يصير رينا وطبعا فلا يقبل المحو، والثاني أن يعاجله المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو، فيأتي الله بقلب سقيم، {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون}(الحجرات :11) ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم.

فاربأ بنفسك  أيها المسكين أن تبقى هملا من الغافلين، وحاذر أن تظل متسكعا في الآثام مع المستكبرين، فأن تتوب إلى الله تعالى يعني أن تتطهر، وترتقي في معارج الطهر المفضي إلى محبة الغفور الرحيم، وتستظل بظلال النور السني  الواقي من حر الجحيم، {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}(البقرة/222)، فأن تتوب إلى بارئك دليل يقظة فطرتك وسلامة طويتك، وعنوان تشرب الخشية  شغاف قلبك.. و{قلإني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}(الأنعام/15)، فعد إلى رشدك أيها التائب واستقم كما أمرت، وداوم العمل الصالح واقرنه بالصدق والإخلاص تتذوق حلاوة الإيمان، واعلم أن رمضان مناسبة مواتية لإصلاح ما فسد فيك بمرور الأيام، ومطهر لما علق في جوانح نفسك من درن الذنوب والآثام.. فتب إلى الله تعالى توبة نصوحا تتجدد فيك مشاعر التقى، وتنهض فيك بشائر الهدى.. {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار}(التحريم : 8).

وختاما اعلم أخي التائب أن توبتك توفيق من الله عز وجل فحافظ عليها بعد رمضان، وسائر الأوقات فهي “إقلاع في الحاضر يقطع، وندم على الماضي يدفع، وعزم على عدم العود يمنع”(2)، وبلوغك شهر رمضان الأبرك في حد ذاته هو توفيق التوفيق، عن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سعادة المرء أن يطول عمره، ويرزقه الله الإنابة))(رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد) فلا تبخس هذه النعمة حقها من الشكر بأداء ما ألزمت بأدائه، ولا تنقض الأيمان بعد توكيدها، واذكر قول المولى جل وعلا:”يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}(المائدة : 1)، ولا تكن {كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا}(النحل : 92).

واصطبر لعبادة مولاك في العسر واليسر والمنشط والمكره، واتق الله تعالى حيث ما كنت تكن من المفلحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. {وتوبوا إلى الله جميعا ايها المومنون لعلكم تفلحون}(النور : 31).

  د. عبد الحفيظ الهاشمي

——-

1-”هذا ديننا”، محمد الغزالي ص: 127

2-”معالم في طريق التوبة”،إبراهيم بن صالح الدحيم، “البيان”، العدد:252، السنة:23، رمضان 1429هـ/سبتمبر2008م، ص:33

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>