وعد الله في محكم كتابه بصعود الكلم الطيب إليه، ورفع العمل الصالح في قوله: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه (فاطر: 10)، وهي آية محكمة إذا استساغها ذوق المؤمن انكشفت له أبحر من الأسرار التربوية والتوجيهية، فترقى به صعدا وتحلق به في فضاء القرب، فتتخلص بها حمائم الروح من أفونة نتن الصلصال بعد مدد نسائم منن تنش رذاذا فتنبت الرسوخ الإيماني على المستوى العقلي، واليقين الشهودي على المستوى الروحي.
فالأعمال الصالحة والأقوال الطيبة تصعد إلى السماء وترفع إلى الله تعالى، ترفع بالمؤمن من حضيض الأرض إلى عنان السماء على مستويي الصعود والرفع.
فحقيقة الأول: “الصعود” مستعار للبلوغ إلى عظيم القدر، وكناية عن القبول لديه؛ فشبه جانب القبول عند الله بمكان مرتفع لا يصله إلا ما يصعد إليه.
وحقيقة الثاني: “الرفع” نقل الشيء من مكان إلى مكان أعلى منه، كنقل الجسم من مقره إلى أعلى منه وهو كناية للقبول عند عظيم؛ لأن العظيم تتخيله التصورات رفيع المكان.
وإنما جيء في جانب العمل الصالح بالإخبار عنه بجملة “يرفعه” ولم يعطف عليه “الكلم الطيب” في حكم الصعود إلى الله مع تساوي الخبرين لفائدتين:
أولهما: الإيماء إلى أن نوع العمل الصالح أهم من نوع الكلم الطيب على الجملة. إلا ما كان من صميم الاعتقاد كقول الشهادتين؛ أو ما كان من القول الذي يكمل بناء العمل الصالح، فهو جزء من ماهيته.
ثانيهما: أن الكلم الطيب يتكيف في الهواء، فإسناد الصعود إليه مناسب لماهيته، وأما العمل الصالح فهو كيفيات عارضة لذوات فاعله ومفعوله، فلا يناسب الصعود إليه، وإنما يحسن أن يجعل متعلقا لرفع يقع عليه ويسخره إلى الارتفاع.
ويقود التأمل في آيات صعود الكلم الطيب إلى كشف حقيقته مذ تكون الكلمة الطيبة نبتة تغرس في الطبع التوحيد إلى أن تصير شجرة وارفة الظلال باسقة الأغصان، متجذرة الأصول تخرج شطأها فتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فتنبثق من الأرض صعودا إلى عنان السماء شامخة بصلاحها؛ يتلقاها الرحمان بيمينه فيربيها للمؤمن كما يربي أحدنا فلوَّه أو فصيله. يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (إبراهيم: 24-25).
لذلك يعمل القرآن على بناء منهج متكامل لترسيخ الكلمة الطيبة وجعلها أصلا في قول المؤمن وسندا لعمله وذلك ب:
- الأمر بالقول الطيب؛ وقد عبر عنه القرآن بما يوائم ماهيته فوصفه بالقول السديد، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (الأحزاب: 70)، فالسديد الذي يوافق السداد” والسداد الصواب والحق، ومنه تسديد السهم نحو الرمية، أي عدم العدول به عن سمتها بحيث إذا اندفع أصابها.. فشمل القول السديد الأقوال الواجبة والأقوال الصالحة والنافعة.. والقول يكون بابا عظيما من أبواب الخير ويكون بابا من أبواب الشر” فترتب على القول السديد صلاح الأعمال ومغفرة الذنوب. فسبق القول العمل، ولما وسم القول بالسداد، تجلت الرحمات من الله مسددة العمل بالصلاح.
وقد أمر الله عباده بالقول الحسن في قوله: وقولوا للناس حسنا (البقرة: 83)، وجعل الإحسان لسائر الناس بالقول؛ لأنه القدر الذي يكون عن اعتقاد، فهم إذا قالوا للناس حسنا فقد أضمروا لهم خيرا، وذلك أصل حسن المعاملة مع الخلق” وقد بين القرآن الكريم في هذه الآية أن القول الحسن من الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل على عهد موسى . فهو ميثاق وعهد للحفاظ على المودة والتآلف بين الناس.
- بيان أهميته في صد الشيطان ومنعه من أن يوهن حبال المحبة بين الناس ويفسد ذات البين، قال تعالى: وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا (الإسراء: 53).
فالكلم الطيب يطفئ نار الخصومة مع المخالف ويحد من تطور الشر واستطارة شرره.
- بيانه أن أحسن القول والكلم الدعوة إلى الله تعالى، إذ يقول سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فصلت: 33)، فالقول الذي يصعد إليه يحاج عن صاحبه يوم القيامة فيشهد أنه كان من الذين يتواصون بالحق ويتواصون بالصبر دعوة إلى دين الله، وإقرارا بالاستسلام التام له سبحانه، واصطفافا في زمرة المصطفين الأخيار. وفي ذلك من الترغيب فيه ما يجعل أصحاب الهمم يتخذونه منهج حياة.
- التحذير من الكلمة الخبيثة باعتبارها نقيض الكلمة الطيبة وكشف ماهيتها وتفصيل تجلياتها والتمثيل لها مع تبشيع صورها والإشعار بمسؤوليتها وبواعثها ونتائجها. قال : ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار (إبراهيم: 26).
فالقرآن الكريم يقر بمناهج الإقناع والحجاج أن الكلمة الطيبة راسخة الأصل، وفيرة الثمار، لها تأثير على سامعها، وتألف بين القلوب، ترفع العمل إلى درجة القبول فالنجاة، وقد تسفل بها إلى درك الطرد والعذاب، فيأمر الله تعالى بالكلم الطيب المقرون بالعمل الصالح بحيث لا يغني أحدهما عن الآخر، وفيه من الإشارة إلى ما يحمل على الحرص عليهما بتدبير أمور الدين كما تدبر أمور الدنيا، وتقوية الباعث بتذكر الجزاء مع الحذر من أن تكون الهمة كالصبي لا يزيده التحريك إلا نوما.
دة. رجاء عبيد