شهر رمضان شهر مبارك فيه خير كثير للم
سلم، فيه أنزل الله تعالى القرآن الكريم، هداية للناس وبيانا للحق، بعدما كانوا في ضلال مبين، وهو شهر أوله رحمة، ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، تصفد الشياطين خلاله، وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أدبر، كما في الحديث الصحيح: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ». وتتهيأ النفوس للإقبال على الله تعالى بالطاعات والقربات، فيغلب جانب الخير على جانب الشر في الإنسان المسلم، ويبدأ في إصلاح نفسه، بتثبيت الجوانب الخيرة فيه، وبإزالة نزعات الشر، وحظ الشيطان منه.
فشهر رمضان فرصة عظيمة أمام المسلمين من أجل إصلاح أحوالهم، لأن من ينظر إلى حال المسلمين اليوم ببصيرة يجدهم بعيدين كل البعد عن دين الله تعالى وأخلاقه وقيمه ومقاصده.
نعم المسلمون اليوم أحوج ما يكونون لإصلاح حالهم وواقعهم، وعاداتهم، وأخلاقهم،.. وعلاقتهم مع الله تعالى، حتى يصبحوا صالحين مصلحين وتتحقق الخيرية المذكورة في القرآن: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (آل عمران: 110).، لأن الله تعالى لا يرضى عن غير الصالحين، ولا ينصر المفسدين، ولا شرار الخلق.
فما على المسلم إلا أن يصحح النية ويجددها، ويتسلح برغبة وعزم لإصلاح نفسه أولا ثم مجتمعه ثانيا، ويبادر إلى كل خير؛ فرمضان فرصة لا تعوض، والعمر قصير، والموت لا يأتي إلا فجأة. وصدق من قال: “إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة… فإن فساد الرأي أن تتردد. فآفة إصلاح النفس التسويف والتأجيل والأماني”.
وشهر رمضان مدرسة بما في الكلمة من معنى، يتخرج منها خريجون صالحون كل سنة بشهادات وأوسمة من معلمهم ومربيهم هو الله تعالى ونبيه ، وفيها مادة دراسية هي القرآن الكريم، وحصص تدريبية هي عملية يومية على الصوم والطاعة، وطلاب يعدون بالملايين، في كل بقاع الأرض.
أولى خطوات الإصلاح تبدأ بتصحيح النية وإخلاص القصد في كل قول أو فعل، حتى لا يكون أحد شريكاً مع الله جل وعلا في العبادة، سواء أكان هذا الشريك شهرة أو شهوة أو مصلحة دنيوية.. وميدان التدرب على الإخلاص هو الصيام، حيث لا يطلع على حقيقته إلا الله تعالى، فهو عبادة سرية بين العبد وخالقه. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي» (رواه البخاري ومسلم).
والتقوى أساس كل إصلاح، فلا صلاح ولا إصلاح لغير المتقين، ولا تقوى لغير الصالحين، وشهر رمضان مدرسة يتخرج منها المتقون بشكل تلقائي، إذا ما صاموا رمضان إيمانا واحتسابا، كما أراد الله . وقد نص على ذلك في القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة: 183). هذا خطاب الله تعالى للمؤمنين يأمرهم فيه بالصيام، ويبين العلة في ذلك وهي تحقيق التقوى، والتقوى هي جوهر الدين، ومقصد الأحكام الشرعية، لأنها من القيم الكبرى الجامعة في الإسلام، والصيام يحقق هذه القيمة، من خلال الإمساك عن الشهوات طواعية، واجتنابها، ومقاومتها، طاعة لله تعالى وخوفا منه . واستحضارا لأوامره ونواهيه في حياة المسلم، إذ التقوى وقاية من عذاب الله تعالى، واتقاء عذابه ومكره وغضبه يكون باتقاء محارمه التي نهى عنها في شريعته، وإتيان أوامره وعدم التفريط فيها أو تضييعها، بحيث يسير في الطريق المستقيم لا يزيغ عنه ولا ينحرف، حتى يلقى الله تعالى وهو عنه راض.
كما أن رمضان مدرسة للتعلم والتدرب على إصلاح النفس بالتحكم فيها وقت الغضب، وكبح جموحها حفاظا على الصيام من الإبطال، وإصلاحا للسان، الذي يجر على صاحبه الويلات، وأكثر من ذلك أنه أكثر ما يدخل الناس إلى النار “الفم والفرج”، فيجب منعه من الغيبة والنميمة والكلام الفاحش، وقول الزور، قال : «وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»، وقال أيضا: «من لم يدَعْ قولَ الزور والعملَ به، فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه» (أخرجه البخاري).
والإصلاح لا يتحقق بغير صبر، سواء إصلاح النفس أو إصلاح الغير، وقد عقب الله على التواصي بالحق بالتواصي بالصبر لأنهما متلازمان، وكل ذلك جاء في سورة العصر، في سياق بيان سبل النجاة من الخسران، والفوز بالجنان، فشهر رمضان شهر الصبر بامتياز، صبر على الجوع والعطش، وصبر على مراغمة الشهوات والرغبات، والنزغات، قال : «صومُ شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يُذهبن وَحَرَ الصدر» (أخرجه البزار). فوحر الصدر هو وساوس الشيطان وما يصيب قلب الإنسان من غيظ وكَدر، فصيام رمضان تقوية للإرادة والعزيمة، وفيه تحصين للنفس ضدّ وساوس الشياطين، وفي هذا علاج للنفس من أمراضها.
والصيام محطة لتصحيح وإصلاح العبادة بأدائها على تمامها شكلا ومضمونا، قلبا وقالبا، وربط أفعال العبادة بقيمها ومقاصدها، وهذا الربط ينقص المسلمين في هذا الزمن، حين طغت المظاهر على المضامين، فأعطتنا تدينا مشوها ممسوخا. حتى صرنا نرى المسلمين ولا نرى الإسلام في حياتهم. يقول الرسول الأكرم : «ليس الصيامُ من الأكل والشراب، إنما الصيامُ من اللغو والرفث؛ فإن سابك أحد أو جهل عليك فقُل: إني صائم، إني صائم». (أخرجه الحاكم).
ورمضان مدرسة تعليم وتدريب كيفية إصلاح العلاقة مع الله تعالى وذلك الاجتهاد في طاعته وعبادته والإخلاص إليه، واستدراك ما فات من تقصير في الفرائض والنوافل، أيام الغفلة أو الطيش، وتخفيف من الذنوب والمعاصي، والتزود بالأجر المضاعف والحسنات الكثيرة، ما دام العرض محدودا ومحصورا في شهر رمضان، ففي الحديث عن سلمان الفارسي قال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فَرَضَ اللَّهُ صِيَامَهُ وَجَعَلَ قِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا، فَمَنْ تَطَوَّعَ فِيهِ بِخِصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ، وَهُوَ شَهْرُ الْمُوَاسَاةِ، وَهُوَ شَهْرٌ يُزَادُ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ فِيهِ، مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَمَغْفِرَةٌ لِذُنُوبِهِ» (رواه ابن خزيمة في صحيحه).
ويتحقق ذلك بالجد والاجتهاد وترك دفء الفراش، والملذات والنوم.. والتعاون على الخير بإيقاظ الأهل، والتعرض لنفحات العشر الأواخر، وتحري ليلة القدر، فقد قال : «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ»، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيى ليله، وأيقظ أهله»، وفي رواية: «أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجد، وشد المئزر» (رواه البخاري ومسلم).
وأخيرا رمضان مدرسة حقيقية من أجل إصلاح الأحوال واستدراك ما فات، والتزود للمستقبل، وتزكية النفس بالتخلي عن العادات السيئة والتحلي بالأخلاق والعادات الحسنة. قال ابن القيم في كتابه الفوائد: “ليس في الشريعة ولا في الطبيعة توقُّفٌ البتَّة، فإذا شغل العبدُ وقتَه بعبودية، تقدَّم إلى ربِّه، وإن شغله هوى أو راحةٌ أو بطالةٌ، تأخَّر؛ فالعبدُ لا يزال بين تقدُّمٍ وتأخُّر؛ قال الله تعالى: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّر َ (المدَّثر: 37)”.
ذ. محمد البويسفي