من أوراق شاهدة – من أيــن نـبـدأ مشوار النهضة بالمحبة


كانت صبيحة مباركة تلك التي تبادلت فيها الحديث مع سائق سيارة أجرة، وكنت آنها أحضن بيتم ذلك السؤال الكبير الذي غدا يرافقنا جميعا.. نحن الذين نحاول أن نتشبث بحائط من رمل لنقنع أنفسنا بأننا ما بدلنا تبديلا وأننا من طينة العاضِّين على الجمر.. كان سؤالنا الرتيب الذي لا يني ينخس رتابتنا أين الخلل؟
ووجدت الجواب العفوي حاضرا حين قال ذلك السائق الوقور بلحيته البيضاء وكلماته الرصينة العميقة، إنه خلل الحب الغائب .. نحن لا نحب بعضنا بل نضمر لبعضنا كل المقت والكراهية، “غير تدور يعطيك صاحبك وما يرحمكش” ثم استرسل في سرد حديث النبي العميق «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم».
كان وهو يتكلم يغمسني في رهبة عظيمة، هل قرأ ما دار في خاطري قبل أن ألقاه؟ ففي ذلك الصباح وقبل أن آخذ سيارة الأجرة لفت نظري وأنا بالشارع العام شاب يركب عربة متهرئة يجرها حمار عجوز وكان قد أنهى لتوه وصلة البحث في حاويات أزبال الحي وعاد بحزمات من بقايا الخضر الفاسدة وأشياء أخرى كان في كامل قواه الجسمانية مطرق الرأس مكتئب الملامح، فكرت في وضع الضيق الكبير الذي قد يكون غارقا في دوامته وهو في هذا الصباح الرمضاني الكريم يجوب المزابل في الوقت الذي يتوسد فيه شباب آخرون وسائدهم ويغرقون في أحلامهم الشبابية بعد ليلة من الإبحار في العالم الأزرق بهواتف ذكية.. فكرت أنه هو القابض على الجمر حقا إذ يوطن أصابعه على البحث في مخلفات الناس الغذائية في حين يروض آخرون أصابعهم للنشل أو حتى الخنق والذبح، بل وحتى الإرهاب العابر للقارات الذي يقتل الناس بالعشرات باسم الله .. تعالى الله عن عنف أصابعهم علوا كبيرا.
أن أرى ذلك الشاب.. ذلك الصباح.. أن أخف إلى إعطائه ما وفقني الله إليه من لمسة مادية بسيطة، كان بحق استجابة لنبض رحمة، جعلني أقول في نفسي حقا ليس سهلا أن يفتح باب المغريات المادية على مصراعيه لشبابنا، وتصادف شبابا بتلك الملامح المغموسة في “الحكرة” وهم يواصلون الحفر في الصخر فذلك مما يفرح الخاطر. وقد رأيتني وأنا في الطريق إلى موقف سيارات الأجرة أطرح ذلك السؤال الآنف الذكر من أين نبدأ وأين الخلل، وإذ قال ذلك السائق الوقور أن المحبة هي الغائبة في علاقات المسلمين، تذكرت الشاب المنغمس في بقايا الآدميين بالمزابل فقلت في نفسي: حتما نحن في عز التشتت الوجداني والعاطفي.. وتوجيهات كتاب الله  وأحاديث رسول الله حول الأخوة وتلاحم البنيان المرصوص غدت مجرد كلام عابر نزين به المهرجانات والمسابقات الدينية، حتى سرت فينا عدوى استعراضية أيكم أحفظ لكتاب الله بلا عمل عوض قوله تعالى: ليبلوكم أيكم أحسن عملا ، وبصيغة أخرى كيف ندعي تشبتنا بكتاب الله تعالى وتكريمنا لحافظيه وفداءنا للحبيب المصطفى ونحن لا ننزل روح الأحاديث النبوية؟!
في هذا السياق، يقول رسول الله «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، فكيف يتزاحم فلذات أكبادنا على المزابل، وتمر تلك الحركات الغريبة حتى لا أقول المقرفة لأجساد محنية تتبضع من سوق النفايات في أجواء من عدم الانتباه حتى ليتساءل المرء هل حقا ترك رسول الله إرثا نبويا حاسما في رفض مجتمع متنافر تنخره لوحات القسوة.. يقول رسول الله «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به».
إن هذه الأعراض الأنانية التي تجعل الآخر هو الجحيم كما قال الفيلسوف الفرنسي الوجودي جون بول سارتر، هي البدايات الحالقة لعلاقات المسلمين الأخوية وهي المؤشر على هشاشة المجتمع الإسلامي؛ يقول أحد الكتاب من المسلمين في سرده لوقائع سقوط الأندلس: “إن أحد أسباب سقوط الأندلس في يد الإفرنج هو داء الفرقة”. يقول هذا الكاتب أنه غداة هجوم أمراء الممالك الأوربية المجاورة على إمارة مسلمة واحتلالها دخل وزير على أحد ملوك الطوائف فوجده حزينا مغضبا فسأله عن سر غضبه وهو يظن أن الملك غاضب لاغتصاب النصارى للإمارة المسلمة المجاورة، لكن الملك قال بلهجة يشوبها القرف بأن سبب سخطه هو مهندسه الذي بنى له قصره، والذي لا يلتزم بما يأمره به.
فهل يمكن أن نقول: “إن حال اليوم أحسن من حال البارحة، ونحن أمام مآسي إنسانية يتشبه فيها آدميون بالبهائم ..؟!
وما يزيد المأساة درامية بل جانبا ساخرا محزنا هو أنني سمعت أن أولئك الشباب المنقبين في المزابل يشتغلون لحساب مافيات المخلفات الذين يكلفونهم بالعمل الوسخ المهين نظير دراهم معدودات.
وما خفي أعظم حين تنحسر معالم البنيان النبوي اللاحم في النفس والآفاق.
ذة. فوزية حجبـي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>