أن تهون من الشيء أو تستهين به معناه أن تستخف به وتعتبره هينا، كأن تستهين بقوة خصمك، أو تستهين بشيء من الأشياء نتيجة سوء تقدير لحقيقته وحجمه، أو عدم إدراكك لكامل الأبعاد والعناصر التي تدخل في قوام تلك الحقيقة. وينتج عن ذلك التهوين أو الاستهانة تصرف مغلوط تجاه ذلك الشيء، أو تعامل محفوف بالأخطار والمفاجآت السيئة التي تتناسب في سوئها وإذايتها مع درجة سوء التقدير ذاك، ودرجة البعد أو العجز عن تصور حقيقة الشيء الذي وقع عليه فعل الاستهانة أو التهوين.
وإذا نحن استقرينا نمط حياتنا وأسلوب نظرنا للأشياء وتقديرنا للأمور، فإننا نخلص لا محالة إلى أن نزعة الاستهانة والتهوين تمثل الطابع الغالب على ذلك الأسلوب، وأن تلك النزعة تكمن وراء كثير من المحن والبلايا، والكوارث والأزمات التي تحدق بمجتمعنا وتهدد سفينتنا بأعتى العواصف والأعاصير.
وإن هذا الأسلوب السقيم وغير السوي ليتمظهر في تعابير شتى: لفظية وعملية تكتسي طابع السلوك الثقافي الذي يتغلغل في الهيئة الاجتماعية والنفسية ويأخذ بتلابيبها، حتى يصبح سلوكا طبيعيا في أعين الفئات الواسعة التي تمارسه وتصرف به شؤون حياتها، وتعالج به معظم قضاياها ومشكلاتها.
وكمثال من التعابير اللفظية عبارة «ماعليهش» الدارجة التي تقابلها العبارة الفصيحة: «لا عليه» أو «لا علينا»، أو عبارة: «ما يهمش» ، أو «سلك عليا». أما التعابير العملية فهي كل ما يعزز التعابير اللفظية من مواقف مداهنة، وردود أفعال سلبية، تتمثل في إقرار ممارسات اجتماعية غير سوية، لما تكتسيه من طابع الهدم أو التخاذل، أو الاستقالة، أو تزكية الذات بالتقليل من عيوبها وثغراتها، أو تعطيل طاقاتها، أو تزييف حقيقتها بإظهارها على غير ما هي عليه، بما يؤول إلى عملية زور سافرة تؤدي حتما إلى فساد الأوضاع، وتفاقم الأعطاب والمشكلات.
ومما لا شك فيه أن التقليل من شأن الاختلالات والإعراض عن معالجتها بمجرد ظهورها، مما يؤدي إلى اتساع الخرق حتى يصبح رتقه في مستوى معين متعذرا بل مستحيلا، وتلك سنة من سنن الاجتماع لا تتبدل ولا تتخلف.
ولعل الأدب القصصي مما يتولى بيان هذه السنة أو هذه القاعدة الذهبية في صور بليغة من البيان والإيحاء، من شأنها أن تكشف مخاطر مشاكستها أو تجاهلها، ومن ذلك ما تمثله قصة أو حكاية لأحد كبار الكتاب الأفارقة المرموقين: أمادو همباطي با، تحت عنوان: «صراع العضاءتين أو لا وجود لخصومة صغيرة» (ضمن كتاب: لا وجود لخصومات صغيرة» (حكايات جديدة من السافانا). ومضمونها أن أحد الأشخاص الذي كانت تعيش معه أمه المريضة في كوخ من الأكواخ، اضطر إلى مغادرتها والغياب عنها لبضعة أيام من أجل أداء واجب العزاء في عجوز حكيم توفي في قرية بعيدة، وأوصى ذلك الشخص قبل مغادرته مجموعة من الحيوانات (كلب وديك وتيس وفرس وثور) بأن يحفظوا أمن الكوخ، وأن يقوم كل منهم بالدور الموكول إليه، فكان أن قام الكلب بدوره كاملا في حراسة المنزل من الخارج كما أمره سيده، بينما تخاذل الباقون، ولم يستجيبوا لما طلب منهم الكلب، وذلك أنه لما «سمع الكلب جلبة بدا أنها قادمة من كوخ الأم العجوز التي كانت مستلقية على سريرها وكان إلى جانبها مصباح زيتي يحترق فتيله بهدوء»، توجس خيفة وأمر الديك أن يستطلع الأمر ويبادر إلى حل المشكل، فما كان منه إلا أن أجاب باستخفاف، بأن الأمر يتعلق فقط بعظاءتين عالقتين في السقف تتقاتلان وتتنازعان جثة ذبابة ميتة»، فلم يحرك ساكنا رغم إلحاح الكلب وتحذيره مما يمكن أن تحدثه الجلبة الناتجة عن خصومة العظاءتين من إزعاج وقلق للأم المريضة، ونفس الموقف تكرر من باقي الحيوانات التي ترجاها الكلب واحدا واحدا من أجل حل المشكلة، وكان يقول لكل واحد وهو يخاطبه: «وأنت تعلم بأنه ليس ثمة مشاجرات صغيرة» وكان كل واحد من تلك الحيوانات يرد في عناد على رجاء الكلب: «اذهب أنت إذن للفصل بينهما» وكان الكلب يرد قائلا: «لا أستطيع، لقد أمرني السيد بأن لا أغادر هذا المكان».
وكانت نتيجة الموقف، أن سقطت العظاءتان من فرط الخصومة والتشابك على المصباح الزيتي الذي خرج فتيله، فنشبت النار جراء ذلك في الناموسية وامتدت إلى الأم المريضة المسكينة التي أصيبت بحروق بالغة، اقتضى علاجها كما رأى مطبب القرية أن تدهن بدم دجاجة، بعد أن تتلى عليه كلمات الطبيب الطقوسية، وأن تشرب المريضة من حساء يصنع من لحمها، فما كان من الديك المقبوض عليه وهو يمر على الكلب إلا أن قال معترفا بمرارة: «آه أيها الكلب، لو كنت فقط اهتممت بصراع العضاءتين، ها أنذا سأفقد حياتي بسبب عدم اهتمامي».
وكان المصير المفجع من نصيب الحيوانات الأخرى، كل بما يناسب وظيفته وطبيعته، وفي كل مرة كان تعقيب الكلب يحمل معنى الأسف والإشفاق لذلك المصير، ولكن مع تحميل كل منهم جريرة عمله وثمرة صنيعه. وصدق الله العظيم القائل: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (آل عمران: 165).
د. عبد المجيد بنمسعود