روى الأمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه : >قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ. كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ الشَّمْسُ -قَالَ تَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ- صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ تَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ مَتَاعَهُ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ. وَقَالَ: الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَقَالَ: كُلُّ خُطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ<(1). يقدم الحديث النبوي نماذج من الأبواب الكثيرة للصدقة، ومن تلك النماذج – وهو محل الشاهد عندنا – أن >الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌطاهرة زكية<، ولذلك فالكلمة الطيبة كلمة نظيفة مؤثرة. وتقابل >الكلمةَ الطيبةَ< >الكلمةُ الخبيثةُ<، ففي القرآن الكريم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ. يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}(ابراهيم : 24- 27).
فإذن لا تكون الكلمة صدقة إلا إذا كانت طيبة غير خبيثة، ولا تكون طيبة إلا إذا كانت >طاهرة زكية مستلذة<(2).
والصدقة ما يبذله الإنسان دون أن يكون واجبا عليه، >وقد يسمى الواجب صدقة إذا تحرى صاحبه الصدق في فعله<(3). ويستدعي التصدّق بالكلمة الطيبة بعدا ثالثا غير البعد النفسي والأخلاقي السالفي الذكر هو البعد الاجتماعي، فالمخاطب حاضر من حيث الحديث عن الكلام، ومن حيث المقصود بتطييبه، فلذلك كان طيب الكلام صدقة باعتبار أثر ذلك على المخاطب وتأثيره فيه. وبوسعنا الآن أن نفهم الحديث النبوي فهما آخر في سياقنا الأدبي، ذلك أن الحديث يحتمل -مما يحتمله- أن الأدب الرسالي صدقة؛ لأنه أدب الكلمة الطيبة، ولأنه يجمع بين طهارة الكلمة، ومتعتها، وشرف القصد ورساليته، فعلى هذا يكون هذا الأدب صدقة يبذلها الأديب ويريد بها وجه الله تعالى. وتلك الصدقة التي يُعبر بها الأديب المسلم عن إيمانه بالله تعالى من خلال امتثال أوامره واجتناب نواهيه في أمور منها أدب التكلم، ولكنه في الوقت نفسه يقصد بها التفاعل مع المخاطب، سواء أتعلق الأمر بدعوته إلى الخيرات، أم بتسليته، أم بمواساته، أم بالتضامن معه… وفي ذلك كله تخرج الكلمة من القلب وتدخل القلب؛ لأنها جامعة بين صدق الإحساس، وحسن العبارة. ولننظر الآن إلى الحديث من زاوية الآيات السالفة الذكر: أول ما نستفيده في فهم الحديث فهما أدبيا أن أدب الكلمة الطيبة موصول بالله تعالى، وأنه لهذا السبب يحرص على أن يحافظ على طيبه، وأن لا يتلوث بقاذورات الخبث والخبائث. والفائدة الثانية أنه راسخ الأصول، ممتد الفروع، فهو يجمع بين متانة البناء وسموقه. والفائدة الثالثة أن ثماره مضمونة. والفائدة الرابعة أن هذه الثمار مستمرة غير متوقفة، فهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ماذا يبقى لأدب الكلمة الخبيثة؟! فهو أولا أدب لقيط؛ لأنه لا أصل له. وهو ثانيا أدب عابر؛ لأنه لا امتداد له، ولا قرار.
وهو ثالثا أدب فارغ؛ لأنه لا ثمار له. وكل ذلك سببه أنه لا صلة له بالله تعالى. ولذلك فكما أننا أمام كلمتين: طيبة وخبيثة، والأولى تصلح للصدقة، والثانية لا تصلح لها، فكذلك نحن أمام أدبين: أدب الكلمة الطيبة، وأدب الكلمة الخبيثة، وأن الأدب الأول هو الذي يُتصدق به؛ لأنه أدب متصل بالله تعالى، منسجم مع المفهوم الحضاري للأدب في جمعه بين المعنى الأخلاقي والجمالي، وما دام كذلك فإنه حري أن يَتعبد به المسلم، وأن يجعله بابا من أبواب التعبير عن عقيدته، وعن إحساسه بناء على ذلك بإخوانه والناس أجمعين. وبناء على ما سبق فأدب الكلمة الطيبة يملك عناصر قوته بمناعته الذاتية ضد جراثيم الخبث، فإذا ما تحصن ذاتيا تقوت صلته بالله تعالى، فتنعكس هذه الصلة عليه فيزداد تحصنا ومنعة، ويزداد صلة بربه، وهكذا، وأدب هذا ديدنه يحبه الله تعالى، ويبسط له القبول في الأرض.
د. الحسين زروق
———
1- المسند: أحمد بن حنبل، 8/225-226، حديث رقم 8168، وقد علق عليه أحمد محمود شاكر بقوله:>هذا حديث صحيح