شتان بين زمن وزمن، ونبض ونبض، وهل يستوي المتبعون لرسول الحق والمتجافون من الذين قالوا سمعنا وعصينا؟؟
ففي زمن نوراني منضبط الإيقاع على التوجيهات النبوية السديدة لم يكن المسلمون يجرؤون على إيقاظ النعرات الجاهلية التي هدمها الإسلام بل كانوا يسعون في طاعة تامة لتوجيهات الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى تجسير هوة الانتماءات القبلية الفاصلة بينهم، بالتوادد والتكارم.. مستندين إلى أكسير التقوى للتفاضل والتمايز.
ولم يكن الوحي الرباني يستجيش ملكاتهم الثقافية والفكرية ليجعلوه عرضة للجدالات العقيمة، حول علمية وحداثة وانسجام نصوصه مع واقع محلي أو دولي، وقد رباهم الحبيب على البحث في خويصصة أنفسهم عن مكامن الخلل والضعف كما دفعهم لتحقيق البنيان المرصوص في الأنفس والآفاق.
لكن حين بعدت الشقة وطال العهد وتكلست القلوب وران عليها ما تكسب من سعي للدنيا وانغمار في مغرياتها العابرة انفصلت القلوب عن وظيفتها اللوامة لتذود في غفلة من نبضها الفطري عن خيارات نفسها الأمارة، وتولت واستغنى الله والله غني حميد، وشاعت بالتالي قيم ومفاهيم جشعة مرعبة مفادها نفسي أولا .. والآخرون هم الجحيم الخ. وتخلقت كيانات بشرية مريضة هجينة يتآلف أعضاؤها على أساس العرق والطائفة والجغرافية والدين المحرف بكل تلاوينه السطحية واشتقاقاته الغريبة، وعم الشح والبخل واللؤم عوض الإكرام والإحسان والمعروف.. وابتليت الأمة بالمتحدثين البارعين من الذين يمضون سحابة أيامهم في الانضمام إلى دورات التواصل لكسب مهارات الإقناع والتأثير.. وتفاضلت القلوب على أساس قوة الجذب والاستحواذ على العقول وغدت تجارة جد مربحة يتخرج من مدارسها الحاذقون في فنون تعليب الجماهير، والقلوب خالية من معالم الإحسان، وصارت العلاقات الإنسانية رهينة الشطارة في تمرير القناعات حتى الخادعة منها ولم يعد مستغربا أن تطالعك أخبار لمجموعات احترافية في فن الإقناع بالانتحار أو بالدعارة المربحة، أو بالإرهاب أو تهريب البشر أو المخدرات الخ.. وكان طبيعيا أن يضمر حس التضامن والإيثار ليحل عوضه حس الأثرة..
وفي خضم هذا السريان الجارف لسيل العدوانية تواصل قوافل الرواحل الرسالية مشيها الوئيد لتؤكد عبر لوحات إنسانية مشرقة غلبة هذا الدين وفرسانه.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ومن بين القيم العظيمة التي رسخها هذا الدين في الأنفس والآفاق وسار على خطاها الرواحل من الرساليين: صفة الإكرام. وقد سجلت لنا السنة النبوية ملامح إكرام نبوي مبهر ففي قصة الرجل الذي سأل رسول الله فأعطاه غنما بين جبلين فانطلق وقد زلزله إكرام الحبيب الذي لا ضفاف لسخائه إلى قومه داعيا إياهم للإسلام قائلا أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى فاقة، في هذه القصة وغيرها كثير جدا ما يؤكد التأثير الحاسم للإكرام على المسار الدعوي الناجع ونجاحه في ترطيب القلوب وترقيقها لتجيب داعي الله تعالى، فقد كانت الجملة الأولى التي بادر بها الرجل قومه “أسلموا فإن محمدا يعطى عطاء من لا يخشى فاقة”.
وفي جعبة مدادي لهذه الحلقة قصة سيرة مسلم من الزمن الحاضر أكاد أخالها أسطورية لما يلفها من وقائع يصعب تصديق صدورها من أنفس يحيط بها كل هذا الاحتناك المريع، ويتعلق الأمر بالداعية الكويتي العظيم الدكتور عبد الرحمن السميط رحمه الله، وسأكتفي ببعض إشارات، لن تغني القارئ الرسالي الكريم عن التزود باستفاضة من سيرة سخاء قل أن يجود بها زماننا المنذور للأنانيات الأكثر شيطانية وقذارة.
هذا الرجل المذهل العطايا انبجس كرمه وهو مجرد طالب لا حيلة له حيث كان يقتر على نفسه ولا يأكل إلا وجبة طعام واحدة في اليوم ليحتفظ بباقي نقود منحة دراسته لشراء مصاحف للمساجد وعطاءات أخرى للفقراء. ومن ضمن أنبل مواقف جوده تخصيصه لجائزة كبرى حصل عليها وقد تجاوزت سبعمائة ألف دينار سعودي كنواة لوقف تعليمي بإفريقيا.. وأثناء ذلك انطلق جهده العملاق لبذل الإكرام في العديد من دول إفريقيا حيث قاد عمليات خيرية مبهرة كعمليات مسح دموع الأيتام وبناء المدارس ورعاية آلاف المشردين وبناء وإصلاح آبار الشرب وبناء المستوصفات ومحاربة المد التنصيري بحرقة دعوية لا قبل لمدادي البسيط على الإحاطة بها.. وقد هاله حجم الجهل الديني واستشراء الفكر الأسطوري في صفوف مسلمي إفريقيا، وكان محرك دعوته هو شعوره بأن الفقر والجهل يجعلان عملية بناء المساجد غير ناجعة لوحدها ومن ثم شمر لإصلاح الشروط المادية والروحية في نفس الوقت للإفريقيين، ولطالما بكى بحرقة وهو يكتشف حجم الأمية التي تطبع سلوك المسلمين الإفريقيين الذين قد يجهلون حتى أبسط أبجديات الدين.. وله حكايات ومواقف دعوية مذهلة التفاصيل جعلت الملايين من الأفارقة يعتنقون الإسلام لإحساسهم بنبله وصدق اهتمامه بقضاياهم وتعاساتهم في جغرافية مغمورة شبه منسية.
ومع مزيد من التفاصيل حول هذا السعي الرباني للشيخ عبد الرحمن السميط سنتوقف في حلقة قادمة بإذن الله تعالى.
ذة. فوزية حجبـي