العدل ميزان الله في الأكوان، ولأجله أرسل الرسل لبني الإنسان، تهذيبا للوجدان، وتزكية للجنان. وهو واجب في كل تجمع بشري، لإقامة عمران متين البنيان شديد الأركان. والتخلي عنه من أي جماعة بُعدٌ عن شريعة الرحمان، مُوقع في الظلم والطغيان، وموذن بخراب العمران؛ {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}. والعدل شريعة العقل السليم، وميزان التصرف المستقيم، وبرهان الخلق الكريم، وعنوان الحكم الرشيد الحكيم. ما لزمه حاكم أو التزمه إلا سلم، وما عدل عنه إلا ندم، وما التزمه شعب إلا أُجر وغنم، وما زاغ عنه إلا أثم وغرِم. ولقد نزلت شريعة الإسلام الغراء بمكارم الأخلاق والآداب، وتوسلت إلى إرساء الحقوق والواجبات -على مقتضى ما تستوجبه الشريعة الصحيحة، والعقول والألباب الصريحة- بأقوى الأسباب الدافعة للشك والارتياب. وعملت الأمة ما شاء الله لها أن تعمل بشريعة السنة والكتاب، والاجتهاد في تحري الحق والصواب، فابتعدت بذلك عن شريعة الغاب، وبنت حضارة ليس لها نظير بين الحضارات. غير أن الأمة لما قابلت كتاب الله بالإعراض، وآثرت ما في الدنيا من أعراض، وجعلت من الأهواء والمصالح الذاتية سبيلا لنيل كثير من الأطماع والأغراض، فحينها دخلها كثير من الأمراض، وزادها داء التبعية للأمم المتغلبة انفصام في عروتها الوثقى؛ من تشكيك في دين الله تعالى وولاء للآخر يصل أحيانا إلى درجة العمى، حتى وصلت إلى مرحلة حكم فيها الحكام رقاب العباد بنار الاستعباد والاستبداد، وركبوا مراكب الظلم والفساد، وتقووا بخصوم البلاد في تركيع خيرة العباد، حتى نسي الناس ـ أو كادوا ـ طعم العدل والكرامة، وفقدوا الأمل في الأمن والأمان، والسلم والسلامة، وفشت فيهم أخلاق الجشع والطمع، ونمت سلوكات الهلع والجزع، وقل الحرص على العدل بَلْه الإحسان، وندر الفضل والعفو بين أفراد المجتمع الواحد. وإن أكبر صور العدول عن العدل وابتغاء سبل الجور والظلم، التفريط في حقوق الله ذي الجلال والإكرام، وتضييع شرائع الإسلام، والعصيان في الحلال والحرام، حتى أصبحت بلاد الإسلام لا تتميز عن بلدان سائر الأنام إلا في الأسماء والأشكال. وثاني صور الظلم والعدوان منع عباد الله من عبادة الله تعالى وإقامة شرعه جل وعلا، ومن بناء المجتمعات على هدي القرآن، وكم في التاريخ القديم والحديث من أهوال يشيب لها الولدان، وأشجان يعجز عن التعبير عنها اللسان: {وما نقموا منهم إلا أن يومنوا بالله العزيز الحميد}. وثالث صور الظلم والإجرام هضم حقوق الناس، من غير موجب ولا احتراس، ولقد تعددت صور هذا الجانب وانتشرت في كل المفاصل والمناصب، وتكاثرت فيها الحكايات والنوادر والغرائب. ورابع صور الظلم والحيف، ظلم الأمم والشعوب، بما يشنه بعضها على بعض من عدوان وحروب، وما يجره ذلك من ويلات وكروب. إن الأمة كل الأمة مطالبة بالعودة إلى نهج القرآن، وسنة النبي العدنان، لإقامة مجتمع العدل والرحمة، ومجتمع المساواة والإخاء، في ظل العدالة والكرامة، وفي ظل الالتزام بشرع الله تعالى، والتجرد والاستقامة. والعدل المطلوب اليوم هو عدل صادر عن الشرع الحنيف والعقل الصريح الحصيف، يشمل القول والفعل، ويعم المحكومين والحكام؛ عدل العباد مع ربهم أولا، وفي خاصة أنفسهم ثانيا، وثالثا مع ذويهم وخصومهم على حد سواء، ومع كل الآخرين، عن التزام واختيار، وليس عن إكراه وإجبار، إلا في حالات الضرورة والاضطرار من غير تعمد ولا إصرار. إن العدل علامة التقوى، به تقام كلمة الله العليا، وبه تصان كرامة الإنسان صيانة مثلى، وبه يرفع الله تعالى عن عباده كل أنواع الشر والبلوى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}، {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب}.