روى الطبراني عن عقبة بن عامر أنه قال: (( قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من راكب يخلو في مسيره بالله وذِكره إلا ردِفه مَلَك، ولا يخلو بشِعر ونحوه إلا ردفه شيطان))(1).
هذا ثالث حديث نقف عليه مما قد يُفهم منه ذم الشعر والنهي عنه، وهو كذلك يختلف عن غيره في أنه يتناول الشعر من زاوية أخرى كما سنرى. والنص من قسمين: قسم عن الراكب الذي يخلو في مسيره بالله وذكره، وقسم عن الراكب الذي يخلو في مسيره بشعر ونحوه. أما القسم الأول فمداره على ثلاثة محاور: أولها الركوب، وثانيها الخلو بالله وذكره، وثالثها رَدف الملَك له.
ويرتبط بالركوب في الحديث أمران: كونه في المسير، وكونه مع الخلو، مما يفيد أننا أمام حديث عن الراكب السائر المنفرد، ومعلوم أن السفر مع الرفقة له فوائد: منها الارتباط بالجماعة والتزامها. ومنها ما توفره الجماعة للفرد من وقاية وحماية. ومنها ما في الرفقة من تصبير وتشجيع وأنس. وأما إذا كانت الرفقة غير ممكنة -والظاهر أن هذا هو موضوع حديث الباب- فإنه يتعين على الراكب في مسيره أن يخلو بالله وذكره، وصحيح أن الراكب مع الجماعة هو أيضا في عدد من حالاته يمكن أن يخلو بالله وذكره، إلا أن حاجة ذاك ليست كحاجة هذا، وفيه أن اللجوء إلى الله تعالى وذكره كفيل بتحقيق ما تحققه الجماعة وزيادة. وثمرة الخلو بالله وذكره في الحديث هي أن يردفه ملك، فنحن أمام فائدة ملموسة. ولفظ ((ردِف)) له في اللغة ((أصل واحد مُطرد، يَدل على اتباع الشيء))(2)، و((ردفه بالكسر: أي تَبِعه))(3)، ومنه: ((ردِف الرجلَ وأردفه: ركِب خلفه، وارتدفه خلفه على الدابة))(4).
وتحتمل العبارة ((ردفه ملك)) في الحديث النبوي بناء على الدلالة اللغوية المعنيين معا: العام وهو الاتباع، والخاص وهو أن يَردفه على دابته، ومهما يكن فالقصد من ذلك أن هذا الراكب يكون محميا مطمئنا، وامرؤ ردفه ملك رَبِح الركوبَ والسفرَ. وأما القسم الثاني من الحديث فمداره كذلك على ثلاثة محاور: أولها الركوب، وثانيها الخلو بشعر ونحوه، وثالثها رَدف الشيطان له. فنحن أمام راكب من نوع آخر، يتفق مع الأول في أنه ركب في مسيره منفردا، ولكنه يختلف عنه في خلوه بشعر ونحوه، وهاهنا ثلاث فوائد: الأولى تنكير لفظ الشعر، وهو ما يفيد أن أي شعر له الحكم نفسه، مهما كان حجمه وموضوعه. والثانية أن هناك أشياء أخرى شبيهة بالشعر قد يخلو بها الإنسان، اكتُفِي في الحديث بالتعبير عنها بلفظ ((نحوه)) المعطوف على الشعر، ومجاله يشمل كل ما يمكن أن يخلو به الإنسان مما لم يدخل في المذكور المصرَّح به، أي: الخلو بالله وذكره والشعر، وبذلك استوعب اللفظ مساحة واسعة مما يمكن أن يشغل الإنسانُ نفسَه به في ركوبه. أما الثالثة فهي أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الخلو بشعر ونحوه جار على معهود العرب في أسفارهم، وقد تتابعت أخبار علاقة العرب بالشعر في الأسفار وبلغت من الشهرة ما بلغَتْ. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وظف الشعر في عدد من أسفاره، ففي سفَر قال لعبدالله بن رواحة ((لو حركت بنــا الركاب))، وأنشد عبدُالله شعرا(5)، وعندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء كان عبدالله بين يديه يمشي وينشد شعرا أيضا(6)، وحدث الأمر نفسه في مسير المسلمين إلى خيبر(7).
وعندما نقارن بين حديث الباب والأحاديث التي ألمحنا إليها آنفا نخلص إلى أن أمر إنشاد الشعر في السفر ليس واحدا، وأن إنشاد الراكب الخالي ليس كإنشاد الراكب مع الرفقة، فخرج بذلك أن يكون حديث الباب عاما يشمل كل شعر في كل سفر. وأمر آخر له علاقة بما سبق وهو أنه يُفهم من الحديث بقسميه أن القصد اتجه نحو آداب السفر، لا نحو بيان حكم الشعر، فخرج أن الحديث من أحاديث ذم الشعر أصلا، وخرج ما يرتبط بذلك من فروع كإنشاده في الحضر، ومع الجماعة، وفي الأندية… والملاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أنَّ نتيجة خلو الراكب بشعر ونحوه أنْ يردفه شيطان، وفي ذلك أمران: أولهما أن الراكب حُرِم الحفظ والأُنس والطمأنينة. والثاني أن الشيطان لما كان عدوا للإنسان، وكان الإنسان أضعف ما يكون إذا كان منفردا، فإذا جمع مع الانفراد والغربة السفرَ والخلو بغير الله وذكره كان اللقمة السائغة للشيطان. بقي أن نشير إلا أن للشيطان علاقة بالشعر وأهله، وحسبنا هنا أن نشير إلى قول الله تعالى في أواخر سورة الشعراء: {وَالشُّعَرَاءُ يَتْبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}(الشعراء : 223)، ومما فُسر به لفظ ((الغاوون)) أنهم ((غواة الجن)) و((الشياطين))(8)، ولابد من الانتباه إلى أن القرآن الكريم يذكر العلاقة بين هؤلاء وأولئك في ((يتبعهم؛، وقد رأينا أن الحديث يستعمل لفظ ((ردفه)) وأن أصل هذا اللفظ في اللغة دال على الاتباع.
د. الحسين زروق
—————
(1)- المعجم الكبير(حديث رقم 895 من الجزء17). وقد علق عليه الهيثمي في (مجمع الزوائد، 10/134) بقوله: ((إسناد حسن )).
(2)- معجم مقاييس اللغة، 2/503، مادة ((ردف)).
(3)- لسان العرب، 9/116، مادة ((ردف)).
(4)- م. س، 9/115.
(5) – السنن الكبرى للنسائي، حديث رقم 8250، ك.المناقب، ب.عبدالله بن رواحة، وقد صححه الألباني في (الصحيحة، حديث رقم 3280.
(6) – صحيح سنن الترمذي، 3/136، حديث رقم 2847، ك.الأدب، ب.ما جاء في إنشاد الشعر. قال الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه…))، وصححه الألباني.
(7) – صحيح البخاري، 3/65-66، حديث رقم 4196، ك.المغازي، ب.غزوة خيبر.
(8) n مدرسة مكة في التفسير: تفسير عبدالله بن عباس، 3/1202، وتفسير مجاهد، 5/614، وتفسير عكرمة، 7/239.