مواقف وأحوال – صدق الله وكذب بورقيبة


يتفنن بعض القادة اليوم في إبعاد الأمة عن دينها، وفصلها عن شريعة ربها، بطرق مختلفة، وأساليب متعددة، فيها مكر وخداع تارة، وفيها تفسيق وتلفيق تارة أخرى، وفيها غير ذلك مما هو معلوم ومشهور، بيد أن الأسوأ في الأمر استخدام بعض “من ينتسب للعلم، ممن يقدم نفسه على أنه عالم أو مفت أو داعية” في هذه الجريمة، والاستعانة بهم في علمنة الأمة وتفريقها وتفسيقها وتكفيرها، وتخريب بنيانها، وسفك دمائها، والأشد سوءا من ذلك انخراط بعض المنتسبين للعلم في تبرير ما يريد الحاكم والاستماتة في الدفاع عنه بالباطل، حتى جاء من يجعل من بعض السفاحين والقتلة رسلا من بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حملهم على ذلك عدم معرفتهم بربهم -أو ضعفها في أحسن الأحوال- حتى وإن عرفوا علم الشريعة، فإنه لا تلازم بين الأمرين، ورغبتهم فيما عند أسيادهم، ورغبتهم عما أعده الله لمن يقول الحق ويصدع به، فضلا عن حبهم للراحة والدعة حفاظا على أبدانهم وأموالهم، إذ ما علموا أن ما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. هذه المواقف المخزية لهؤلاء دفعتني لأذكر القارئ الكريم بموقف لأحد العلماء المعاصرين بين يدي طاغية من جبابرة العصر أيضا. ذلكم هو الشيخ محمد الطاهر بن عاشور صاحب التحرير والتنوير والحبيب بورقيبة حاكم تونس الأسبق. لقد بلغت بالحبيب بورقيبة وقاحته وصلفه حدا جعله يدعو التونسيين إلى الفطر في رمضان عام 1381 هـ بدعوى زيادة الإنتاج، فلما لم يلق الاستجابة التي كان ينتظرها، طلب من المفتي -محمد الطاهر بن عاشور- أن يفتي بما يوافق هواه وضلاله، وأمر أن ينقل ذلك على أمواج الإذاعة حتى يصل إلى جميع التونسيين، فما كان من الشيخ إلا أن ذهب للإذاعة فعلا لكنه عوض أن يلبي رغبة الحاكم نفذ أمر الله جل وعلا، فقد قرأ آية الصيام {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات، فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين، فمن تطوع خيرا فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} ثم قال بملء فيه معقبا “صدق الله وكذب بورقيبة”. فلم يستطع بورقيبة – بكل جبروته- أن يمس الشيخ بسوء، وقصارى ما فعل أنه أحاله على المعاش(1). هذه واحدة من عشرات المواقف لعلماء معاصرين قدموا الله جل جلاله على الحاكم، ولو استنطقنا التاريخ لنطق من ذلك بالكثير، غير أن قصدنا أن نذكر بعض إخواننا بأنا راحلون إلى ربنا واقفون بين يدي سيدنا ومولانا، فماذا عسانا نقول {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه}.
د. امحمد العمراوي من علماء القرويين amraui@yahoo.fr
—–
1- راجع القصة في كتاب: “جامع الزيتونة: المعلم ورجاله” لمحمد العزيز ابن عاشور ص 125.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>