كن عفيفا تعش شريفا


عن أبي عبد الرحمن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: ((ألا تبايعون رسول الله، وكنا حديثي عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ألا تبايعون رسول الله، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ألا تبايعون رسول الله، قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا، وأسر كلمة خفية ولا تسألوا الناس شيئاً، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه))(رواه مسلم). وقال القرطبي رحمه الله تعالى : أخذه صلى الله عليه وسلم على أصحابه البيعة :”ألا يسألوا أحدا شيئا” حمْلٌ منه على مكارم الأخلاق، والترفع عن تحمل مِنَن الخلق وتعليم الصبر على مضض الحاجات، والاستغناء عن الناس، وعزة النفس، ولما أخذهم بذلك التزموه في جميع الأشياء، وفي كل الأحوال، حتى فيما لا تلحق فيه منة، طرد اللباب، وحسما للذرائع (1). وعن سفيان صخر بن حرب رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تلحوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا له مسألته مني شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته))(رواه مسلم). قال القرطبي : إنما نهى عن الإلحاح لما يؤدي إليه من الإبرام واستثقال السائل، وإخجال المسؤول، حتى إنه إن أخرج شيئا أخرجه عن غير طيب نفس، بل عن كراهة وتبرم، وما استخرج كذلك لم يبارك فيه، لأنه مأخوذ على غير وجهه، ولذلك قال : “فَتُخْرجُ له المسألة شيئا وأنا كاره له”. وهذا كان حال أصحاب النفوس الدنيئة المريضة، قال القرطبي : كانوا يكثرون سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبخلوه، فكان يعطي العطايا الكثيرة بحسب ما يسأل لئلا يتم لهم عرضهم من نسبته إلى البخل، كما قال : “إن قوما خيروني بين أن يسألوني بالفحش، وبين أن يبخلوني ولست بباخل”(2). حج هارون الرشيد فقال لصاحبه : يا عباس حك في نفسي شيء، فانظر لي رجلا أسأله، فدخلنا على الفضيل بن عياض فوعظ هارون الرشيد، فبكى هارون بكاء شديدا ثم قال للفضيل عليك دين؟ قال نعم، دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن ساءلني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي، فقال : إنما أعني دين ا لعباد. قال : فقال: إن ربي لم يأمرني بهذا. أمرني أن أصدق وعده، وأن أطيع أمره، فقال : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق}، فقال له : هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك، فقال : سبحان الله تكافئني بمثل هذا؟ سلمك الله ووفقك. فخرجنا من عنده، فقال لي هارون : يا عباسي هذا أزهد المسلمين اليوم. إن فعل الفضيل هذا هو أفضل نموذج في التطلع إلى ما عند الله، والتعفف عما في أيدي الناس، وهو أحسن فهم لحديث ثوبان رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ تَكَفَّلَ لِي أَنْ لا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا فَأَتَكَفَّلَ لَهُ بِالْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ ثَوْبَانُ : أَنَا ، فَكَانَ لا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا))(رواه أبو داود بإسناد صحيح).
ذ. عبد الحميد صدوق
——-
1- المفهم ج 3 ص : 86. 2- رواه مسلم.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>