أكثر ما يخلد ذكر العلماء والمفكرين عبر التاريخ هي مواقفهم المشرفة ووقوفهم في وجه الظلم والطغيان، فالمواقف هي التي تخلد صاحبها أكثر من العلم الذي يخلفه وراءه. فالإمام أحمد ابن حنبل -على سبيل المثال لا الحصر- عرف بموقفه من قضية خلق القرآن ربما أكثر مما عرف بكتاباته وعلمه الغزير. نفس الشيء بالنسبة لسلطان العلماء العز بن عبد السلام فلا يكاد يذكر إلا بوقوفه في وجه الظلمة ومناصرة الحق والمستضعفين…. الأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، أكتفي منها بعلم واحد جسد فعلا ما ينبغي أن يكون عليه علماء الدين.. إنه سعيد بن جبير في مواجهة شجاعة ونادرة للطاغية الحجاج بن يوسف…
سمع الحجاج بن يوسف أن سعيد بن الجبير يتكلم فيه فأمر بإحضاره.
فلما جيء به، قال له الحجاج: أنت شقي بن كسير؟!… ( بعكس اسمه )
فرد سعيد: أمي أعلم باسمي حين أسمتني .
فقال الحجاج غاضباً: «شقيت وشقيَت أمك !!»
فقال سعيد: «إنما يشقى من كان من أهل النار» ، فهل أطلعت على الغيب ؟
فرد الحجاج : «لأُبَدِلَنَّك بِدُنياك ناراً تلَظّى!»
فقال سعيد: والله لو أعلم أن هذا بيدك لاتخذتك إلهاً يُعبَد من دون الله .
قال الحجاج: ما رأيك فيّ ؟
قال سعيد: ظالم تلقى الله بدماء المسلمين !
فقال الحجاج: اختر لنفسك قتلة يا سعيد !
فقال سعيد: بل اختر لنفسك أنت!، فما قتلتني بقتلة إلا قتلك الله بها !
فرد الحجاج : لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحداً قبلك، ولن أقتلها لأحد بعدك
فقال سعيد : إذاً تُفسِد عليّ دُنياي، وأُفسِدُ عليك آخرتك.
ولم يعد يحتمل الحجاج ثباته فنادى بالحرس: جروه واقتلوه!!
فضحك سعيد ومضى مع قاتله.
فناداه الحجاج مغتاظاً: ما الذي يضحكك؟
يقول سعيد: أضحك من جرأتك على الله، وحلم الله عليك!!
فاشتد غيظ الحجاج وغضبه كثيراً ونادى بالحراس: اذبحوه!!
فقال سعيد: وجِّهوني إلى القبلة، ثم وضعوا السيف على رقبته، فقال: {وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفاً وما أنا من المشركين}
فقال الحجاج: غيّروا وجهه عن القبلة!
فقال سعيد: {ولله المشرق والمغرب فأينما تُولّوا فثمّ وجه الله}
فقال الحجاج: كُبّوه على وجهه !
فقال سعيد: {منها خلقناكم وفــيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى}
فنادى الحجاج : اذبحوه! ما أسرع لسانك بالقرآن يا سعيد بن جبير!
فقال سعيد : «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» . خذها مني يا حجاج حتى ألقاك بها يوم القيامـة !!
ثم دعا قائلاً: «اللهم لا تسلطه على أحد بعدي» .
وقُتل سعيد ….
والعجيب أنه بعد موته صار الحجاج يصرخ كل ليله: مالي ولسعيد بن جبير، كلما أردت النوم أخذ برجلي !
وبعد 15 يوماً فقط مات الحجاج ولم يُسلط على أحد من بعد سعيد
رحمك الله يا ابن جبير وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ذ: عبد القادر لوكيلي