إلى أن نلتقـي – نظرات في إصلاح التعليم (8) لـمـاذا نجَـح التّـعـليـم فـي بـلادنـا بعد الاسـتـقـلال


توقفنا في عمود العدد ما قبل الماضي عندَ من أوصى بها ديننا الحنيف أمّا وأختا وبنتا، بمناسبة زمنٍ جُعِل لها فيه يومٌ واحد في السنة بدعوى تكريمها، في حين كان ينبغي أن تكون حاضرةً بيننا في كلِّ وقت وحين، معززة مكرّمة، فهي التي جعل نبينا عليه الصلاة والسلام الجنة تحت أقدامها، وأوصى بها ثلاثا، وأوصى بالرجل الوالد مرةً واحدةً.
ونعود في هذا العدد إلى مواصلة الحديث عن التعليم، الذي هو الآخر كان للمرأة في دور كبير، قد نعود إليه في وقت لاحق إن شاء الله.
نعُود إلى الحديث عن الأسباب التي كانت وراء نجاح التعليم في بلادنا بعد الاستقلال مباشرة، ونقول أولاً -كما ذكرنا سابقا- إن من بين أسباب ذلك، تلك الرؤية الرسالية والنظرة الوطنية الثاقبة التي كانت لدى جيل المؤسسين من الأساتذة والمعلمين، تلك الرؤية التي كان يسْتَنِد فيها أصحابها إلى قيم ديننا وحضارتنا وأعرافنا، منافسين في ذلك أصحاب الرسالةِ الأخرى، رسالةِ فَرْنسةِ ِالتعليم، التي كان يتولّى جلّها المدرسون الفرنسيون أنْفسهم، حيث كانت كل المواد تدرّس بالفرنسية منذ المرحلة الابتدائية، ولم تكن اللغة العربية إلا مادةً من الموادِّ، ومع ذلك أتقن المغاربة هذه اللغة تعليما وتعلّما، بفَضْلِ أولئك الرواد.
لقد كان المدرِّسون الفرنْسيون يؤدّون هم أيضا رسالتهم بإخلاص بدافع حب لغتهم وبدافع نشرها خارج قاعدتها في القارة العجوز، رغم أن معظمهم كان يؤدي واجب ما كان يُعرف آنذاك بـ«الخدمة المدنية»، ولم يكن أي واحد منهم يتعلل بضعف الراتب أو بعده عن وطنه وأهله، لا لشيء إلا أنه كان مؤمنا برسالته.
ومن باب أداء الرسالة -كما كان يفهمها ذلك الجيل- احتضان التلاميذ واعتبارهم امتداداً لفلذات أكبادهم، ولم يكن يدور في خلد أحدِهم أن يسْتغلّ التلميذ ليكون ضحية مادية باجباره على الساعات الإضافية وابتزازه فيها أو في غيْرها من الماديات، بل ما زلت أذكر أن عدداً من المدرسين كانوا يخصصون عدداً من الساعات بشكل تطوعي لدعم التلاميذ المحتاجين إلى ذلك، بل واعانتهم ماديا أيضا.
لقد كان المعلم في المرحلة الابتدائية والاستاذ فيما بعد ذلك من المراحل التعليمية الأخرى يقوم بدور التربية قبل التعليم، ومن ثمّ كان يحرصُ على أن يكون سلوك تلميذه على مستوى حسن من الخُلق المتزن، ليس داخل القسم فحسب، ولكن أيضاً خارجه، حتى إن عامة التلاميذ كانوا يتحاشون الالتقاء بأساتذتهم خارج المدرسة تقديراً لهم واحتراماً، وخشية أن يزونهم -وهم يلعبون في الدروب والساحات- في أحوال أو أوضاع قد يُفهم منها أنها سلوكات لا تليق بالتلميذ المهذّب المتخلف.
نعم لقد كان بعض المدرسين يقسون على تلامذتهم باستعمال «العنف» الذي كان يتجلى بالخصوص في الضرب على أكُفِّ اليدين أو باطن القدمين، لكن مع ذلك لم يكن «المعنفون» من التلاميذ ولا آباؤهم يرون أن ذلك ينتقص من القيمة الاعتبارية للمدرس، ولا من مكانته التربوية التي يؤديها، لسبب بسيط، وهو أن استعمال الضرب بالعصا أو بالسّوط لمعاقبة التلميذ الكسول أو غير المنضبط أو غير المتخلق، كان أمراً عاديا ومعمولاً به في أكثر من بلد، فضْلاً عن أنه كا ن من التقاليد التربوية المعمول بها، ليس فقط في مجال التربية والتعليم ولكن في كل القطاعات الأخرى التكوينية والحرفية وغير ذلك، بل حتى الآباء لم يكونوا يخرجون عن هذا الإطار أيضا، ولذلك لا يمكن أن ينتقص من مكانتهم الأخلاقية ورسالتهم المهنية شيء كان معمولا به في كل المجالات الأخرى.

د. عبد الرحيم الرحموني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>