لآلئ وأصداف – عبد الله كنون والدولة الإسلامية


للأستاذ عبد الله كنون، في ديوانه: «لوحات شعرية»، قصيدة عنوانها: (لسان حال الدولة الإسلامية)، وهي قصيدة تكشف عن حس مرهف تجاه الأمة الإسلامية وقضاياها المصيرية. واختياره في العنوان لفظ: (الدولة الإسلامية)، بدلا من: (الدول الإسلامية)، دال على ذلك الحس الوحدوي الذي يأخذ على الشاعر إحساسه من أقطاره، فكأنّ منطق الأشياء، ومنطق التاريخ، ومنطق الشرع، يقول إن الدولة الإسلامية من شأنها أن تكون واحدة، حيث لا يستقيم أن تكون الأمة واحدة، وأن تكون هذه الأمة دولا شتى: (وأن هذه أمتكم أمة واحدة). وإن كان منطق الواقع يقول إن هذه الأمة لم تصر دولا فقط، بل صارت أمما، ولا ينفعها ما وصفها به محمود حسن إسماعيل، في وصفه بقوله:
أممٌ شتى ولكن العلا
جمعتنا أمّةً يوم النداء
ومعلوم أن محمود حسن إسماعيل من الشعراء الرواد الذين صدروا في شعرهم عن رؤية شعرية إسلامية متميزة. ونفحات الإسلام العطرة تزكي شعره، وشعره الوجداني، وشعره الثوري في ذلك سواء. إلا أن شعره ابن عصره كما يقال. وهو وإن تأخر زمانه عن شعراء النهضة، من أمثال أحمد شوقي وأحمد محرم وعلي الجارم، ممن كان منطلقهم الحس الإسلامي القوي، وتأثر بسبب ذلك أكثر منهم برياح التجديد التي انطلقت مع مطران ثم شعراء المهجر، والشعر الرمزي الذي كان إلياس أبو شبكة من أقطابه، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يتأثر بما ساد رواد النهضة بصفة عامة، من اتخاذهم وصف (الشرق) للدلالة على الشعوب الإسلامية، في مقابل (الغرب)، الدال على الدول الإفرنجية. فلذلك سمى قصيدته: (نداء الشرق). فليس الشرق عنده غير شعوب الإسلام. وكذلك كان الأمر في الكتابات الإصلاحية مع محمد عبده والأفغاني والكواكبي وهلم جرا. فالشاعر عندما تحدث عن (أمم شتى) يقصد أنهم (شعوب شتى)، استنادا إلى قوله تعالى: وجعلناكم شعوبا وقبائل ، ولكن المنتهى أنهم: (أمة). أمة يجمعها يوم المحن هدف واحد، ومصير واحد. وعلى هذا اختار عبد الله كنون أن يتحدث عن (دولة إسلامية) واحدة.
ومن أجل أن يتغلغل عبد الله كنون في أعماق هذه (الدولة الإسلامية) ومشاكلها، يفضل أن يجعل الخطاب على لسانها، ويعطي القوس باريها، ويجعل لها، لا لعرّاف اليمامة حكمها، ومن شأن ذلك الاختيار أن يؤدي رسالة الشاعر على وجه أفضل.
وإذا كنا قد رأينا، في الحلقة الماضية، ثورة الشاعر على الجمود، وهو يتحدث عن ناشئة الأدب، فإنه في هذه القصيدة أيضا يثور ثورة جامحة على الجمود، في استنكار شديد لموقف العاكفين عليه. بل هو يجعل لازمة قصيدته التي تتكرر في كل مقطع من مقاطعها، قوله في استنكار:
(يا بني الإسلام ما هذا الجمود؟)
وقد تكررت هذه اللازمة في القصيدة اثنتي عشرة مرة، وللتكرار في مثل هذه المواقف فائدته التي لا تخفى.
وهذا يدلّ على أن زعماء الحركة الإصلاحية عندنا، هم أول دعاة التجديد، وهم رواد النهضة، في جانبها المشرق، المتصل بكون النهضة لا تتم بالانقطاع عن الجذور، والتنكر للأصول، بل بحسن تمثل التراث، والانطلاق منه إلى آفاق المستقبل الباني. وذلك على عكس ما يزعمه خصوم أدب الحركة الإصلاحية الذين يجمعون أدبهم تحت مسمى: (السلفية الأدبية).
وإذا كان لا بد من الاسترشاد بدول الإفرنج، فلنسترشد بهم في علو الهمم، والإقبال على البناء في عزم ويقين، حتى ارتفع بنيانها، وعز شانها. فلا عذر لأبناء أمتنا إذن فيما هم فيه من الغفلة والرقاد. يقول رحمه الله تعالى:
دول الإفرنْج تعلي شأنها
وأنا في كل شيء دونها
وبنوها أحـرزوا كيانها
وبنيّ الغفلُ نهبٌ بينها
يا بني الإسلام ما هذا الجمود؟
والحسرة بادية في قول الشاعر على لسان الدولة الإسلامية: (وأنا في كل شيء دونها). كل شيء، مما يصح أن يقع فيه التنافس. فأما ما هو من خصوصيات هذه الأمة، من أمور العقيدة والأخلاق، فمطلوب من الأمة أن تستعيد من ذلك ما ضاع منها، وأن تعض عليه بالنواجذ كما يقال، لا أن تكون في ذلك مقلدة للإفرنج. إذ العقيدة والأخلاق هي ما يميز هذه الأمة، وذلك هو سمتها الناصع، ووصفها البارز، وشعارها الملازم لجلدها. فإن تخلت عنه انقرضت وبادت، ليس انقراضا ماديا، بل الانقراض الحضاري الذي هو أشد وأقسى أنواع الانقراض.
وننتقل إلى مقطع آخر حيث يقول :
إنما الإسلام بالعُرْب سما
وبهم أوفى على قطب السما
من به قِدْما تحدَّى الأمما
فاستكانت، غير أعراب الحمى؟
يا بني الإسلام ما هذا الجمود؟
فالارتباط بين الإسلام والعرب، (وليس العروبة)، ارتباط وثيق، إذ العرب مادة الإسلام، كما قال عمر ، فالإسلام لا يعز إلا بعز العرب، وذلك هو ما يجعل مسؤوليتهم أعظم من غيرهم. كما أن الإسلام هو روح العرب، فإن فرّطوا فيه فرّطوا في الروح. ولا خير في جسد لا روح فيه. وفي هذا القول الذي قرره الشاعر إنهاء للخصام النكد الذي يريد بعضهم أن يشعله بين العرب والإسلام، وهو ما لا يكون؛ لأنه مخالف لطبيعة الأشياء. فلا عرب بلا إسلام، بل هم -إن رضوا لأنفسهم ذلك- مجرد أعراب، تتخوفهم الأمم من كل طرف. ولا إسلام -على الحقيقة- بلا عرب ولا عربية، إذ من يفقه روح الإسلام إلا من يحمل العربية ويصونها؟ وليس أبلغ في التعبير عن هذه الحقيقة من هذه الصورة، التي قدمها الخليفة عمر، وجسدها كنون شعرا.

يلتقطها د. الحسن الأمراني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>