لا يختلف اثنان أن القرآن الكريم وصل بالبلاغة إلى حد الإعجاز، حتى صار عبر عصور طويلة مدارَ دراسةٍ وتأملٍ ونظرٍ، أبانَ خلاله أنه البحرُ الذي لا ينضب معينُهُ. وحسْبُ القارئ أن يذكر أن “عمل علماء اللغة والنحو والصرف والبيان كان دعوة إلى غاية: هي الإيمان بإعجاز القرآن..”(1).
ولعل أهم دارس حاول الغوص في الإعجاز البياني للقرآن الكريم، هو عبد القاهر الجرجاني (تــ: 471هــ) الذي كانت نارُ بلاغته مشتعلةً، وشمسُ حكمته طالعةً في “دلائل الإعجاز”، وبعد عبد القاهر ودراسته التي جمعت بين العلم والعمل، توالتِ الدراسات إلى أن يتم تجديدُ الوعي البلاغي بالقرآن الكريم في العهد المعاصر. ويأتي كتاب “بلاغة القص في القرآن الكريم وآفاق التلقي في القرآن الكريم”، للدكتورة سعاد الناصر (أم سلمى) ضمن الصحوة البلاغية التي فتحت آفاقا واسعة لتلقي النص القرآني. وهو الكتاب التاسع والستون بعد المائة، من إصدارات كتب الأمة، عن إدارة البحوث والدراسات الإسلامية/ قطر، 2015،(يقع في مائة وثلاثة وأربعين صفحة، من الحجم المتوسط). وجاء الكتاب في فصلين وخاتمة ومدخل، وتقديم من لدن الأستاذ عمر عبيد حسنه. وقد عُنْون الفصلُ الأولُ بــ: “المادة القصصية ومقاصد تلقيها”، تقاسم تَرِكَتَهُ مبحثان، فجاء الأول عن: “المادة القصصية في القرآن الكريم”؛ بينما جاء الثاني في: “مقاصد التلقي”. أما من حيثُ الفصلُ الثاني فقد وُسم بــ: “بلاغة القص وجمالية تلقيه”، وفد تشكل من ثلاثة مباحث، فقَارَبَ الأول: “جمالية الانسجام والتناسب”؛ في حين سَلَّطَ الضوءَ المبحثُ الثاني على: “جمالية التصوير والتشخيص”؛ أما المبحث الأخير فقد تحدث في: “جمالية الإيجاز والحذف”.
وقد تسلحت الباحثة في –هذا الكتاب– بعُدَّة منهجيات، وأدوات إجرائية، ورؤية بلاغية أسعفتها في أن تضع القرآن الكريم موضع تدبر وتفكر وتأمل قصصه، تقول الدكتورة سعاد الناصر: “وقد سعى القرآن الكريم في تقديم جزء كبير من خطابه من خلال مادة قصصية، سادت في كل السور، بشكل تجعل المتأمل يكتشف أن خطاب القص فيه، ليس مجرد إخبار عن أحداث ماضية من أجل العظة والاعتبار، وإنما هو أيضا تأسيس لسياق جمالي وثقافي، يرسخ حقيقة التوحيد، وينسج خصوصيات جمالية ومعرفية، مغايرة لسياق الشرك وآفاقه، ولمرجعية الشعر وسطوته”(2).
وانتهجت الباحثة في الكتاب منهج “الذوق”، و”الذوق” لفظة تداولها المعتنون بفنون البيان ومعناها –كما يقول ابن خلدون (تــ: 808هــ)– “حصول ملكة البلاغة للّسان”. ويمكن أن نقول: إن الباحثة قد اعتمدت الذوق البلاغي، حيث إن “البلاغة الجديدة” أصبحت منهجا مع “رولان بارط”، و”جيرار جنيت”، وغيرهم من الغربيين الذين خدموا البلاغة، فبات هذا المنهج يبحث في الجوانب الجمالية والتأثيرية للنصوص. والبلاغة ضروب وأنواع، فمنها “بلاغة الشعر، وبلاغة الخطابة، وبلاغة المثل، وبلاغة العقل، وبلاغة البديهة، وبلاغة التأويل”(3).
ويُجمل أبو حيان التوحيدي (تــ: نحو 400 هــ) فضل “بلاغة التأويل” قائلا: “وبهذه البلاغة يُتّسعُ في أسرار معاني الدين والدنيا، وهي التي تأولها العلماء بالاستنباط من كلام الله وكلام رسوله في الحلال والحرام، والْحَظْرِ والإباحة، والأمر والنهي، وغير ذلك مما يكثر، وبها تفاضلوا، وعليها تجادلوا، وفيها تنافسوا، ومنها استملوا، وبها اشتغلوا، وقد فُقِدتْ هذه البلاغةُ لفَقْدِ الروح كلِّهِ، وبطل الاستنباط أولُه وآخرُه، وجولان النفس واعتصار الفكر إنما يكونان بهذا النمط في أعماق هذا الفن؛ وها هنا تنثال الفوائد، وتكثر العجائب، وتتلاقح الخواطر، وتتلاحق الهمم، ومن أجلها يستعان بقوى البلاغات المتقدمة بالصفات الممثلة، حتّى تكون معينةً ورافدةً في إثارة المعنى المدفون، وإنارة المراد المخزون”(4).
ومنهج “الذوق في الكتاب يصب في منحيين: الأول يتحدد من خلال جمع المادة القصصية؛ فجمع هذه المادة يُحتاج إلى ذوق سليم حتّى يحصل الذهن الوثيق، والفهم الدقيق. أما المنحى الثاني، فهو منحىً تطبيقيٌّ تتشابك فيه التحليلات، وتتناصى فيه الحجج (كل واحدة تأخذ بناصية الأخرى)؛ ولإدراك الفروق الدقيقة بين العبارات، وتحديد جمالية الأسلوب يحتاج إلى الذوق المصفى. فالبلاغة في القول، وإدراك الجمال في العبارة، والشعور بالحسن في النص تحتاج كلها إلى الذوق المرهف، والطبيعة الموهوبة (5).
وقد تزودت الباحثة بزاد البلاغة في بُعديه التداولي والحجاجي من أجل نَسْجِ خُيوط القص في القرآن الكريم لتحقيق الإمتاع والإقناع. تقول الباحثة مُعلنةً ومُفصحةً عن أدواتها في مصاحبة النص القصصي في القرآن الكريم: “وأروم في هذا الاقتراب، بإذن الله، الاستناد إلى التفاعل المستمر مع القرآن الكريم، ومحاولة خوض غمار مسالكه وحدائقه، والإنصات إلى نبض معانيه ورهيف جمالياته بعدة البلاغة، وقدح زناد الأسئلة الفنية والمعرفية، واستصحاب مصادر التفسير، من قرآن وسنة نبوية وبعض التفاسير المعتبرة. وقبل هذا وذاك، استحضار التأمل والذوق السليم، كي لا يضيع الهدف الأسمى من أي قراءة أو فهم، ألا وهو تعبيد الحياة لله رب العالمين”(6).
وقد أشارت الدكتورة سعاد الناصر إلى أن عملية القص في القرآن الكريم لا تخضع بالضرورة لشروط القص الإنساني؛ لأن مبدعه هو الله، الذي أبدعه لأغراض دينية وجمالية ومعرفية، يدعونا إلى اكتشافها من خلال التبصر والتدبر. ومن ثمة فالقصة القرآنية –حسب الباحثة– إحدى أهم وسائل التبليغ القرآنية المتعددة في الشكل، والمتحدة في الهدف، ولذلك فهي ليست عملا فنيا مستقلا في موضوعه وطرق عرضه وإدارة حوادثه كما هو الشأن في القصة الفنية الحرة، التي ترمي إلى أداء غرض فني طليق، بل هي وسيلة من وسائل القرآن الكثيرة إلى أغراضه الدينية، وخطابا توجيهيا يؤثر في النفس الإنسانية، بسبب ما يتضمنه من متعة السرد وجمال الإيقاع وعمق المعاني مما تميل إليه النفس وتألفه.
وبموازاة مع ذلك تفرق الدكتورة سعاد الناصر بين مستويين من مستويات القص في القرآن الكريم:
- مستوى الأخبار السردية المنتجة لفعل القص.
- ومستوى القصة باعتبارها متناً حكائياً، ينتظم وِفق نسق المبنى الحكائي الخاص. والمستويان معا باعتبارهما بنيةً مُكتملةً يشكلان مصطلح القصة القرآنية، وكانت البلاغة عدةً مسعفةً حاولت من خلالها الباحثةُ استنطاق مكنونات وجماليات هذه البنية. إذْ لم يعد الهدف الأول للبلاغة العلمية هو إنتاج النصوص بل تحليلها (7).
- من أغراض القصة ومدى حضورها في الكتاب:
وتأسيسا على ذلك، فإن للقصة القرآنية أغراضا كثيرةً حصرتها الدكتورة سعاد الناصر في ثلاثة فروع تتكامل فيما بينها:
- فرع ديني: حيث إن القصة وسيلة من أهم الوسائل التي استثمرها القرآن الكريم في نشر الدعوة والقيم الإنسانية.
- فرع معرفي: إذ إن أسلوب السرد والقص مبثوث في كل مكان من القرآن الكريم بشكل يجعل المتلقي على اتصال معرفي وثقافي بما تحمله القصة من رؤى ومواقف ومفاهيم حول مجموعة من المنظومات المتجلية في الكون والحياة والإنسان.
- فرع جمالي: ذلك بأن القصة القرآنية تعتمد أسلوبا فنيا وجماليا مؤثرا، يفي بكل آليات وشروط التعبير الفني وعناصر السرد الحكائي المتميز.
وتقول الدكتورة سعاد الناصر عن هذا التكامل بين الأغراض، وأهميته في تحقيق مقاصد القصة القرآنية: “وهذا التكامل في الأغراض والمقاصد يجعل القصة في القرآن الكريم إحدى أهم وسائل التبليغ القرآنية المتعددة في الشكل، والمتحدة في الهدف، تنقل إلى الإنسان تجارب إنسانية مختلفة ومتعددة، وقعت في أزمنة وأمكنة معينة، لكن طريقة تقديمها وأسلوب عرضها المعجز في القرآن الكريم، يجعلها تنساب في حاضر المتلقي وعقله ووجدانه”(8).
وقد تراوحت القصة القرآنية من منظور المفاهيم الحديثة بين: القصة الطويلة، والقصة القصيرة، والقصة الحوارية، والإشارة القصصية، والشذرة القصصية. ومن هذه الأشكال التي أوردناها ما يدخل في النمط المتكامل، ومنها ما يدخل في النمط المفتوح.
ولا يخفى علينا أن القصة القرآنية تتميز بعدة خصائص أجملتها الدكتورة سعاد الناصر في: الكثرة، والتذييل، والانتقاء، وهيمنة السارد على الشخصيات والأحداث، والتَّكرار الذي اعتبرته الباحثة ظاهرة لافتة للنظر في القصص القرآني حيث يخدم غرضا فنيا يتمثل في تجدد أسلوب القصة، والتنوع في عرضها، وغرضا نفسيا يتجلى بما له من تأثير في النفوس. والتَّكرارُ قبل أن يكون ملمحا أسلوبيا مميزا فهو –كما يقول الدكتور جابر عصفور-: “قانون من قوانين الوجود الذي نعيش فيه، ونتقلب معه كمحيط الدائرة بين نقيضين دائما: حياة وموت، ذبول ونضارة، ربيع وخريف، شتاء وصيف، طفولة وكهولة، والتكرار كان مبدأ من مبادئ حياة العرب في البادية قديما، يرونه في حركة الناقة، دوران الأفلاك، دوران الشمس، ولذلك كان التكرار أحد المبادئ الجمالية في الفن العربي الأصيل”(9).
ومما يلفت الانتباه في هذه الدراسة التي قدمتها الدكتورة سعاد الناصر حضورٌ لجمالية التلقي الذي تردد صداه بين أرجاء مباحث الكتاب، ويبقى هذا المعطى ملمحاً عزيزاً؛ ذلك بأن عملية التلقي للقصص القرآني تمكن الذات المتلقية من الانفتاح على عالم أوسع، وفضاء أرحب، حيث يُصبح المتلقي طرفا في عملية القص القرآني ومعيارا تُقاس به درجات جمالية الصورة القصصية.
إن التأثير، والتأمل، والتدبير، هي وظائف يقوم بها المتلقي تجاه النص القرآني بشكل عام، والنص القصصي منه بشكل خاص. فإن “جمالية التصوير” التي تناولتها الباحثة بالدرس والتحليل، تستوجب مشاركة، وتفاعلا من لدن المتلقي، إذِ التفاعلُ مع النص القصصي هو الذي يحدث عند المتلقي وقعا جماليا.
ومن هنا يتضح أن الدكتورة سعاد الناصر قد زاوجت بين “جمالية التلقي”، و”جمالية الأثر” في الوقوف عند القصص القرآني مستحضرةً السياقات التاريخية التي جاءت فيها أحداث القصص، ثم استنطاقها لبنية النص القرآني وتدبره، على اعتبار أن “نظرية جمالية التلقي تمتح من المناهج التاريخية. بيد أن نظرية الأثر الجمالي تنهل من منطلقات نصية داخلية”(10).
وإذا عدنا إلى دفّتيْ الكتاب -الذي بين أيدينا- نجد الدكتورة سعاد الناصر تعتبر “التلقي” من صميم المفهوم الرسالي للدعوة؛ لأنه بدون تلقي الوحي وضوابط هذا التلقي وشروطه لا يمكن تحقيق الرسالية وتطبيقها وتصديرها أيضا.
وبهذا ترى الباحثة أن من أهم مقاصد تلقي القصص القرآني، “التزكية والتدبر”، حيث يشتركان في تربية النفس على الطاعات، والقصة القرآنية بمجملها تركز على التزكية والسمو بالأخلاق وتقويم السلوك وإصلاح النفوس. ثم إننا نجد من أهم المقاصد التي يتلقاها متدبر القصص القرآني، مقصد “الحق والصدق”، وهما معا يفضيان إلى دلالات مشتركة. يبقى المقصد الثالث الذي وقفت عنده الدكتورة سعاد الناصر، مقصد “الحسن والجمال” حيث استحضرت الباحثة جملةً من الأمثلة القرآنية التي تعرض لمنظومة من المواقف والصور التي يسكنها الحسن والجمال من كل ناحية، وهناك آية قرآنيةٌ تبين أن القصص القرآني أحسنُ القصص: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوحَينَا إِلَيكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (يوسف: 3).
ما بقي لي إلا أن أقول لك بصوت خفيض أخشى ألا تسمعني: إنه سرٌّ، بل أعمق أسرار هذه الجولة بين طيات هذه الدراسة، فالكتاب جهدٌ واضحٌ، ونبشٌ ناجحٌ في معمار النص القصصي القرآني، ولن يتبين لك هذا الجهد إلا بالرجوع للكتاب والظفر به، وقراءتي هاته لا يمكن أن تكون فاصلةً، ولا نهائيةً؛ وإنما مجردُ نفحات مسكية من يَمِّ البلاغة القرآنية اقتطفناها قطف الزهور من كتاب: ” بلاغة القص في القرآني الكريم وآفاق التلقي”، للدكتورة سعاد الناصر، وفيما يلي من القول أربعُ خلاصات استقطرتها الباحثة استقطار الشهد من العسل، من رحلتها التي جمعت بين المتعة والفائدة بين نصوص القص في القرآن الكريم:
- جمالية التلقي تتشكل من خلال امتزاج البناء الفني، ومقاصد الرؤية الموضوعية الدعوية، وتعتمد على تقنيات بالغة الإعجاز والروعة. واستحضار المدخل البلاغي في الفهم والاستنباط والتأمل، يكشف عن ثورة متجددة من المعاني والدلالات والبيان المعجز.
- شساعة التنوع في أسلوب الخطاب وبلاغة القص، فالقصص القرآني لا تجري على نمط واحد، وإنما حسب السياق، وما يلائم مقتضى الدلالات وطبيعة المخاطب.
- تأكيد القصص القرآني على اعتبار الوظيفة الرسالية للرسل والأنبياء واحدة، وقضيتهم قضية واحدة، هي توحيد العبودية لله، وأنها نماذج منتقاة من رب العزة للتفاعل معها.
- رغم انتهاء السرد في القصة القرآنية، فإن ظلالها لا تنتهي، بل تكتمل رحلة بيانها في بناء آفاق وفضاءات، مرتبطة مع باقي القصص القرآني، لتحقيق الوحدة الشمولية، تحث المتلقي على المزيد من التأمل والتدبر، وإنزال دلالاتها ومعانيها على أرض الواقع، من أجل ترشيد المسيرة وتصحيح السلوك، وإعادة صياغة نفسه وفق هديها.
ذ. محمد حماني
—————
نظرا لطول المقال فقد تم الاستغناء عن الهوامش.