إنّ معرفة الدّوافع الحقيقية للاستشراق يجب أن تظلّ هدف كلّ باحث في هذا المجال، بل يجب اعتبارها إذا اقتضى الحال فرضا من فروض الكفاية، فالكمّ الهائل من المستشرقين الذين سخروا كلّ جهودهم، بل وأفنوا أعمارهم في دراسة وتحليل حضارة المسلمين، إنّما ينمّ عن أهداف كبيرة يسعى هؤلاء لتحقيقها والاستفادة منها، أوّل هذه الأهداف وأخطرها محاولة إعطاء صورة مشوهة عن الإسلام كدين، وعن الشرق كحضارة، وعن العربية كتراث وقومية.
وحتّى نكون منصفين غير بعيدين عن الحقيقة لا بدّ أن نذكّر أنّ المستشرقين ثلاثة أصناف:
أوّلها صنف كتب في علوم العرب بحقد وكراهية مبتعدا بذلك عن المنهج العلمي، متأثرا في كلّ ما كتب بروح العداء التي زرعتها فيه الكنيسة، ونذكر من هؤلاء: جيب وجولد زيهر وبروكلمان.
وثاني هذه الأصناف صنف كتب بروح علمية محاولا إفادة قومه بما يكتب عن الحضارة الإسلأمّية دون أن يهتدي إلى الإسلام، ومن هؤلاء نذكر: الكونت “هنري دي كاستر” الذي درس الإسلام دراسة عميقة وله كتاب اسمه “الإسلام سوانح وخواطر” تحدّث فيه عن مزايا الإسلام، كما جنّد نفسه للردّ على كثير من افتراءات المستشرقين.
وثالث هذه الأصناف صنف كتب بروح علمية صادقة، ودرس الإسلام دراسة عميقة حتى اهتدى إليه، وأصبح سيفا من سيوفه، يدافع بكل ما أوتي من إمكانيات، ويردّ الشّبه والمكائد التي يثيرها أعداء الإسلام.
ولقد ذكرنا هذه الأصناف تنبيها للقارئ إلى أنّ مسألة أمّية النّبي عليه السّلام موضوع مقالنا هذا هي الأخرى عرفت انقساما كبيرا بين المستشرقين كما سيأتي بيانه حتى صار من الناذر أن نجد أحد المستشرقين لم يتعرض لهذه المسألة، فلقد أعطوها اهتماما بالغا، وجهدا وافرا، وعندما نذكر المستشرقين ليس بالضرورة كما يتبادر إلى الذهن أنهم مجمعون على إثبات علمه بالقراءة والكتابة، فمنهم من تبيّن واقتنع بالنظرة الإسلامية في هذا الموضوع، ومن هؤلاء: “أماري، وكازيمير سكي، ومونتيه الذين ذهبوا إلى ذلك في ترجماتهم للقرآن الكريم، إضافة إلى ول ديورانت الذي قال: “ولكن يبدو أنّ أحدا لم يعن بتعليمه القراءة والكتابة، ولم تكن لهذه الميزة قيمة عند العرب في ذلك الوقت، ولهذا لم يكن في قبيلة قريش كلها إلا سبعة عشر رجلا يقرؤون ويكتبون، ولم يعرف عن محمّد أنّه كتب شيئا بنفسه، وكان بعد الرسالة يستخدم كاتبا خاصا، ولكن لم يحل بينه وبين المجيء بأشهر وأبلغ كتاب في اللغة العربية أو على تعرّفه لشؤون النّاس تعرفا قلّما يصل إليه أرقى النّاس تعليما”.
وفي مقابل هذا الرأي الحامل للوجهة الإسلامية، نجد الفريق الثاني من المستشرقين يذهب إلى تأكيد علم النّبي بالقراءة والكتابة قبل نزول الوحي إليه؛ ومن هؤلاء “مونتغمري وات” الذي ادّعى أنّ محمّدا صلّى الله عليه وسلّم كان تاجرا بمكة وأنّ مكة كان يوجد بها عدد كبير ممّن يعرف القراءة والكتابة، يقول: “ورغم أنّ الإسلام الأصولي يقرر أنّ محمّدا كان لا يعرف القراءة والكتابة إلا أنّ هذه المعلومة مشكوك فيها بالنسبة للعلماء الغربيين المحدثين، لأنّها تبدو موضوعة من أجل إبراز الطابع المعجز لوجود القرآن، وهو عمل لا يستطيع أمّي أبدا أن ينجزه. وعلى العكس نجد أنّ عددا كبيرا من المكّيين كان يعرف القراءة والكتابة، ولذلك يفترض أنّ تاجرا نشيطا كمحمّد كان يتوافر على حظّ من هذه الفنون”.
ولم يكتفِ “وات” بإيراد هذا الدّليل فقط، بل أورد أدلّة بدء الوحي التي نقلها الأئمة كابن إسحاق والبخاري ومسلم، واستنتج منها تأكيد ما ذهب إليه من علم النّبي بالقراءة والكتابة؛ يقول: “تتضمّن الرواية المتعلقة بسورة العلق عدة أشكال… ويجب تفسير قول محمّد (ما أقرأ) في ردّه على قول الملك (إقرأ) ب (لا أستطيع القراءة) أو (التّلاوة) يتّضح لنا ذلك من وجود رواية –عند البخاري- تقول: (ما أنا بقارئ) وفي التّمييز عند ابن هشام بين (ما أقرأ) و(ماذا أقرأ) حيث التّعبير الثاني لا يمكن أن يعني إلا (ماذا أتلو)، وهذا هو المعنى الطبيعي لقوله (ما أقرأ) فمن المؤكّد تقريبا أنّ المفسّرين التّقليديين اللاحقين تجنّبوا المعنى الطبيعي لهذه الكلمات ليجدوا أساسا للعقيدة التي تريد أن تجعل من محمّد شخصا لم يكن يعرف الكتابة، وهذا عنصر رئيسي للتّدليل على طبيعة القرآن المعجزة”.
إنّ المستشرق “وات” يسعى جاهدا إلى نفي أوجه إعجاز القرآن من جهة، وإقامة الدّليل على أنّ نبيّ الإسلام قد قرأ التّوراة والإنجيل، وعنهما نقل قرآنه من جهة أخرى.
أما المستشرق “ستوبرت” فقد ادّعى أنّ النّبي لم يكن أمّيا، يقول “ويغلب على ظني أنّ محمّدا لم يكن أمّيا لأنّ هناك بعض الآثار الإسلامية، تدلّ بأنّه كتب صلح الحديبية بيده”. وقصة صلح الحديبية معروفة ومشهورة في الكتب الصحاح، التي تؤكّد أنّ علي بن أبي طالب “هو الذي كان يكتب في الحادثة المذكورة، فقد أخرج الإمام مسلم من حديث البراء بن عازب: “كتب علي بن أبي طالب الصلح بين النّبي وبين المشركين يوم الحديبية، فكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقالوا: لا تكتب رسول الله، فلو نعلم أنك رسول لم نقاتلك، قال النّبي لعلي: امحه، فقال: ما أنا بالذي أمحوه، فمحاه النّبي بيده”.
وعند الإمام مسلم رواية أخرى: “… فأمر –أي رسول الله – عليا أن يمحها، فقال علي لا والله لا أمحها، فقال رسول الله : أرني مكانها، فأراه مكانها، فمحاها وكتب –أي علي- ابن عبد الله”.
فهكذا لم يكلف “ستوبرت” نفسه عناء الرجوع إلى المصادر الإسلامية الصحيحة، واكتفى بالفهم البسيط للرواية، لأن هدفه كان محددا من البداية وهو إثارة الشكوك والشبهات.
والحقيقة أن فكرة تعلم النّبي لم يبتدعها المستشرقون ابتداعا، بل سبقهم إلى ذلك بعض العلماء المسلمين الذين تبنوا القول بتعلم النّبي بعد البعثة، ومن هؤلاء الشعبي وابن أبي شيبة، وأبو ذر الهروي، وأبو الفتح النيسابوري، وأبو الوليد الباجي، والألوسي، والسيد المرتضى وغيرهم. وقد اعتمد هؤلاء على قوله تعالى: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون إضافة إلى الحديث الذي ورد فيه طلب النّبي ما يكتب به عند احتضاره”.
فهذه أمثلة على سبيل المثال لا الحصر من جملة ما ذكره المستشرقون حول أمّية النّبي ، والحقيقة أن القرآن كان واضحا تمام الوضوح في حقيقة أميته إذ يقول تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كتاب وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُون ، وفي قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيل ، وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِين .
لقد أجاب القرآن الكريم بنفي تعلمه ، إذ إنه لا يقرر أنه أمي فحسب وإنما يؤكد، بصريح العبارة أنه لم يسبق له أن قرأ كتابا قبل القرآن أو كتب بيده، يقول ابن تيمية : “بين سبحانه من حاله ما يعلمه العامة والخاصة وهو معلوم لجميع قومه الذين شاهدوه متواترا عند من غاب عنه وبلغته أخباره من جميع الناس أنه كان أميا لا يقرأ ولا يخط كتابا من الكتب المنزلة ولا غيرها ولا يقرأ شيئا مكتوبا منزلا، ولا غيره ولا يكتب بيمينه ولا ينسخ شيئا من كتب الناس لا المنزلة ولا غيرها”.
وجاء في فتح الباري حول “ما أنا بقارئ”: ما نافية، إذا لو كانت استفهأمّية لم يصح دخول الباء، وإن حكي عن الأخفش جوازه فهو شاذ، والباء زائدة لتأكيد النفي، أي ما أحسن القراءة”. إن ما ذهب إليه “وات” تكذبه الوقائع التاريخية التي ذكرتها لنا كتب السيرة التي تعرضت لحياة النّبي فضلا عما ذكرناه من الآيات الكريمات، وأن الحقيقة بادية للعيان لا غبار عليها، فلا ينكرها إلا عنيد متعنت، فلقد نطقت بها حناجر المستشرقين أنفسهم، ومنهم “توماس كارليل” الذي عقد فصلا رائعا عن هذه القضية، فقال: “إن محمدا لم يتلق دروسا على أستاذ أبدا… ويظهر لي أن الحقيقة هي أن محمدا لم يكن يعرف الخط والقراءة” ، فما على المستشرقين المعنيين إذن، ومن تبع نهجهم من بني جلدتنا سوى توسيع صدورهم، وتنوير عقولهم للقبول بهذه الحقيقة الجلية.
سعيد عبيدي
——————–
- محمد فتح الله الزيادي، ظاهرة انتشار الإسلام وموقف بعض المستشرقين منها، المنشأة العامة للنشر والتوزيع، طرابلس، الطبعة الأولى، 1983، ص: 90.
- نفسه، ص: 102-108. وانظر كذلك: عبد المنعم فؤاد، من افتراءات المستشرقين على الأصول العقدية في الإسلام، مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى، 2010، ص: 39-47.
- ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة: محمد بدران وآخرين، الطبعة الثانية، القاهرة، ج.13، ص: 21-22.
- Montgomery watt ; Mahomed prophet et homme d’etat ; traduit par odile mayot ; édition la petite bibliotheque payot ; parie ; 1962 ; p : 37.
- منتغمري وات، محمد في مكة، ترجمة: شعبان بركات، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ص: 85.
- محمود ماضي، الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده، دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 1996، ص: 111
- صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية، 1783 .
- نفسه.
- سورة العنكبوت: 48.
- لخضر شايب ، نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في الفكر الاستشراقي المعاصر، مكتبة العبيكان، ص: 393.
- سورة الأعراف: 157.
- سورة الجمعة: 2.
- شيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، شرح وتعليق: د. محمد خليل هراس ، مطبوعات الجامعة الإسلأمّية بالمدينة المنورة، ط4، ج 4/31.
- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري ، ج1/24.
- توماس كاريل، الأبطال، ترجمة: محمد السباعي، الدار القومية، القاهرة، ص: 5.