اللا نظام هو، بكل بساطة، الوضع المضاد للنظام، أي الفوضى. وعنونة هذا المقال به بدلا من الفوضى أردت من خلالها الإشارة أو التنبيه إلى البعد الإرادي الذي يطبع أفعال وحركات من يسعون إلى إحلال اللا نظام محل النظام، متذرعين إلى ذلك بكل الوسائل والأساليب والمبررات، بما فيها -في بعض الحالات- محاولة إقناع من يعترضون عليهم وينكرون صنيعهم أن ذلك الصنيع هو عين النظام، معبرين بذلك عن أحد أقبح وجه من وجوه السفسطة واللامعقول.
والمقصود بالنظام هو الوضع الذي نكون فيه أمام حشد من الأفعال والسلوكات، وقبل ذلك أمام شبكة من الأطر والمؤسسات، والحركات والتنظيمات ، التي يشدها نسق واحد واضح الأهداف والغايات، فلا يشذ عن ذلك النسق أي من تلك المكونات أو المقومات، وإلا أصبحنا أمام وضع يوصف باللا نظام، تقاس خطورته وفداحته وسوء عواقبه بحسب نوعية المكون أو المكونات التي تعلق بها الشذوذ، وبحسب حجم أو درجة شمول ذلك الشذوذ الذي ينتقل في مستوى معين عند استشراء داء اللانظام من وضع الشذوذ إلى وضع العموم، الذي تسبح فيه السفينة في سديم من الانفلات والفوضى التي تدفعها إلى أغوار المجهول.
إننا إذا ما قمنا باستقراء واقعنا وتفحصه في جميع جوانبه ومناحيه، ألفيناه مسكونا باللانظام الذي ينشب مخالبه في كل شيء: في الثقافة والتعليم والإعلام، وفي الأدب والفن، وفي الرياضة، وما إلى ذلك مما يتعلق بوجود الإنسان ككائن اجتماعي متعدد المواهب والحاجات.
وإذا وصف وضع ما بالنظام لكونه مؤسسا في كل مناحيه على رؤية فلسفية موحدة، وعلى منظومة من القيم المنبثقة منها، فإن وصف وضع آخر باللانظام مرده إما إلى افتقاده لرؤية من ذلك القبيل، أو خضوعه لرؤى أو مرجعيات متشاكسة، وذلك بغض النظر عن المصرح به أو عدم المصرح به من تلك المرجعيات على المستوى الرسمي، والناظر اللبيب لا يفوته أن يدرك بأن أوضاعنا الاجتماعية والثقافية والتعليمية والتربوية لا تفتأ تتأرجح بين الطرفين أو الحالين المذكورين، وتلك هي أم المعضلات التي تتولد عنها كافة الشرور والموبقات، التي تشل كل مساعي التقدم والنماء، وتسد كل منافذ العمل الهادف البناء.
والمتابع لساحتنا الثقافية والفكرية يلاحظ بجلاء ما تفرزه من أفكار وتصورات سقيمة، وما تلفظه دوامتها الخرقاء من مشاريع وتقليعات تصب في صلب اللانظام، وتسعى إلى تكريسه وتطبيعه.
ولنضرب أمثلة على ذلك:
أولا: الدعوة إلى إعادة طرح مسألة الهوية، وكأن الشعب المغربي يسير في عماء، وأن هويته لم تحدد بعد، وهذا عين الخبال، وعين العبث في التعامل مع مسألة جوهرية ومصيرية تم الفروغ منها منذ ما ينيف على الأربعة عشر قرنا، لقد «دعا باحثون مشاركون في ندوة الثقافة والإدماج إلى صياغة مفهوم جديد للهوية يكون أكثر قدرة على استيعاب قيم الاختلاف والتعدد داخل المجتمع» (هسبريس 21 ـ 2 ـ 2015)، واتهم هؤلاء الباحثون خطاب الهوية الحالي بالقصور، وأغلب الظن أن السياق الثقافي الراهن يفيدنا في فهم الداعي الأساسي لهذا الاتهام، إنه بلا شك عدم بلوغ المدى المأمول من هؤلاء في الإجهاز على ما تبقى من عناصر الأصالة في الهوية القائمة، إن على مستوى التصريح المكتوب، أو على مستوى تجلياتها في أنماط التعامل والسلوك. ولو اتبعت أهواء هؤلاء الباحثين لما استقر للهوية قرار، ولظل المغاربة في طور المراوحة والتذبذب والحيرة، أي خارج التاريخ، وهل يصنع التاريخ إلا داخل هوية محددة المعالم والأصول؟
ثانيا: الدعوة إلى اعتماد الدارجة في التدريس، التي ارتفعت وتيرة الإلحاح عليها من طرف جهات لا علم لها بحقيقة اللغة أو التعليم، وهي قد دأبت على وضع الحواجز والعقبات دون الخروج من أزمة التعليم، من خلال وظيفة الضوضاء والتشويش التي اضطلعت بها، حتى لا تتبوأ اللغة العربية مكانتها اللائقة والمنوطة بها في إعادة الروح لتعليم فقد روحه منذ زمان.
ثالثا: الدعوة إلى التسيب الأخلاقي والتحلل من قيم الدين وأحكامه، تحت دعوى التحرر وتمكين الإنسان من «حقه» في الفجور والتفسخ والانحلال، فقد انبرى أحد المهووسين بالحرية الجنسية في ندوة نظمها مركز السياسات للشرق الأوسط وإفريقيا في موضوع الجنس في علاقته بالدين والأعراف، ليدعو بشكل سافر ووقح لممارسة الجنس قبل الزواج، معتبرا إياها حقا «لا يجب أن يصادر تحت أي تعليل» وأن هذا الحق «لا يجب أن يكون مقيدا لا بالدين ولا بالقانون»، ولم يجد ذلك المهووس -الذي يجاهر بدعوته إلى هذا المنكر الصراح- تحت غطاء البحث السوسيولوجي وهو منه براء، لم يجد أدنى غضاضة من التهجم على العلماء والساسة، متهما إياهم بالتواطؤ في تحريم مناقشة موضوع الحرية الجنسية، وفي تحريم الإجهاض، علاوة على اتهام الإسلام بعدم المساواة بين الجنسين إزاء الممارسة الجنسية.
إن إطلاق العنان لكل من هب ودب لأن يهرف بما لا يعرف، تحت غطاء حرية الفكر والتعبير، ودون مراعاة لمصالح الأمة العليا، ودون مراعاة لضوابط العلم والدين وأخلاقيات الفكر والحوار، يعتبر بلا ريب نسفا لأسس النظام، وتقويضا لدعائم الأمن والسلام الاجتماعيين، فلا يمكن بتاتا لسفينة المجتمع أن تبحر في خضم تيارات متلاطمة، وبدون بوصلة صحيحة الاتجاه، تتمثل في الرؤية الاستشرافية الواضحة، القائمة على العلم والرشد، وعلى نفاذ البصيرة ووحدة القصد.
وصدق الله العظيم القائل سبحانه عز وجل: آرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ( يوسف: 39).
د. عبد المجيد بنمسعود