أمرَنَا اللهُ سبحانَهُ أَنْ نقرأَ القرآنَ الكريمَ، ونفهَمَ معانِيَهُ، ونتدبَّرَهُ لِنُدرِكَ مرامِيَهُ، قالَ تعالَى:﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ ﴾ (ص : 29) ويقول سبحانه:﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ اَقْفَالُهَا ﴾(محمد: 24).. فالمتدبر لآيات القرآن العظيم لهو في خير كبير؛ إذ يزداد إيمانه، ويتضح له الطريق الموصل إلى الله تعالى وإلى جنته، وبأي شيء يطلبها، ويستبين له طريق النار وبأي شيء يحذرها، أما من أغفل كتاب الله وهجره فما له من ذلك الخير من نصيب.
ومن السور التي نقرؤها مرارا وتكرارا وأكثر الناس في غفلة عن معانيها سورة العصر والتي حَوَتْ فِي طياتِهَا كثيراً مِنَ المعانِي الإيمانيةِ، والفوائدِ التربويةِ والسلوكيةِ، يقول تعالى:﴿ وَالْعَصْرِ إِنَّ الاِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (العصر : 1 – 3). قال عنها الشافعي رحمه الله : «لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم»؛ وما ذلك إلا لما احتوته هذه السورة من بيان لأصول الدين وفروعه، وبيان لسبيل المؤمنين المؤدي للربح والفوز بالجنة والنجاة من النار, وقد كانَ الصحابةُ الكرامُ رضيَ اللهُ عنْهُمْ يقرؤونَهَا إذَا الْتَقَوْا أَوِ افترَقُوا.
افتتحَ اللهُ عزَّ وجلَّ هذهِ السورةَ بِالقَسَمِ، فقالَ :﴿ وَالْعَصْرِ وهوَ الزمنُ الذِي تقَعُ فيهِ أعمالُ بنِي آدمَ، وهذَا يدلُّ علَى عِظَمِ الوقتِ وأهميتِهِ، وشرفِ الزمانِ وعُلوِّ قيمتِهِ، فالوقتُ مِنْ أَنْفَسِ النِّعَمِ التِي أنْعَمَ اللهُ سبحانَهُ بِهَا علَى الناسِ؛ لأنَّهُ ميدانُ سعيِهِمْ، ومضمارُ سبْقِهِمْ، والرابحُ مَنِ اغتنمَ وقْتَهُ، وصانَ مِنَ الزللِ نفسَهُ، والخاسرُ مَنْ فرَّطَ فِي الزمنِ، فكُنْ يَا عبدَ اللهِ مِمَّنْ أحْسَنَ اغتنامَ وقتِهِ وعُمرِهِ بالخيرِ والعملِ، ولا تُضَيِّعِ الوقتَ وإِنْ كانَ قليلاً، فهُوَ إمَّا لكَ أَوْ عليكَ، قالَ اللهُ تعالَى:﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ (الزلزلة: 7، 8).
وقَدْ بيَّنَتِ السورةُ أنَّ الناسَ فريقانِ: فريقٌ يلحَقُهُ الخسرانُ، وفريقٌ نَاجٍ مِنَ الخذلانِ، فمَنْ وفَّقَهُ اللهُ تعالَى جعَلَ الوقتَ عوناً لَهُ فِي حياتِهِ، فأحْسَنَ استثمارَهُ فِي اكتسابِ أُمورٍ منْهَا: الإيمانُ باللهِ تعالَى، قالَ عزَّ وجلَّ:﴿ إِنَّ الاِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ اِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا (العصر : 2 – 3).
فالإيمانُ هوَ الركنُ الذِي لاَ غِنَى عنْهُ للإنسانِ، وهوَ أساسُ الفرَحِ والأمانِ، وبابُ السرورِ والاطمئنانِ، ولاَ يقبلُ اللهُ تعالَى مِنْ إنسانٍ عملاً، ولا يُثبِتُ لهُ أجراً، مَا لَمْ يكُنْ عملُهُ نابعاً مِنَ الإيمانِ باللهِ تعالَى، وحقيقتُهُ التسليمُ والخضوعُ للهِ عزَّ وجلَّ، وامتثالُ أمرِهِ، والرضَا بقَسَمِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «ذَاقَ طَعْمَ الإيمانِ مَنْ رَضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّدٍ رَسُولاً» ولا يكون الإيمان بالله إلا بمعرفة ربوبيته عز وجل، وأنه الخالق الرازق المدبر لهذا الكون، وألوهيته وأنه المستحق للعبادة وحده دون سواه، وأسمائه وصفاته، ومعرفة رسوله المعرفة التي تستلزم قبول ما جاء به من الهدى ودين الحق وتصديقه فيما أخبر، وامتثال أمره فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وتقديم حبه على النفس والمال والولد، ومعرفة دين الإسلام. وذلك بتعلم أحكامه وتعاليمه ومن ثم العمل بها، فمن عرف ذلك فقد آمن وصدق، ومن خالف وأعرض فهو المتصف بالخسارة.
ومِنَ الإيمانِ باللهِ استثمارُ الجوارحِ فِي عملِ الطاعاتِ والقُرُباتِ، ولذَا أردفَ اللهُ سبحانَهُ وتعالَى عملَ الصالحاتِ بعدَ ذِكْرِ الإيمانِ فقالَ:﴿ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات فهو جوهر العبادة وأساسها، فالعمل الصالح شامل لأفعال الخير كلها الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله وحق عباده الواجبة والمستحبة. والعمل الصالح من لوازم الإيمان بالله، فكلما زاد عملك زاد إيمانك، وكلما قل عملك قل إيمانك، فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
وبعض الناس يظن أنه يكفي مجرد الإيمان في القلب ولا حاجة للعمل، وهذا باطل، بل الإيمان مقترن بالعمل، والعمل دال على الإيمان، فمن صلح باطنه بالإيمان صلح ظاهره بالعمل الصالح، ومن فسد باطنه ونقص إيمانه فسد ظاهره وترك العمل، فلا تجد الإيمان في القرآن إلا وهو مقرون بالعمل الصالح، وهذا كثير لمن تأمل وتدبر.
ولاَ تكتمِلُ نجاةُ الإنسانِ وبُعْدُهُ عَنْ أهْلِ الخسرانِ إلاَّ بالتواصِي بالحقِّ معَ أهلِ الإيمانِ، قالَ تعالَى:﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ (العصر : 3) والحقُّ هوَ لزومُ العملِ بكتابِ اللهِ تعالى، وامتثالُ أمرِهِ، واجتنابُ نَهْيِهِ، فيوصِي المرءُ أهلَهُ وأرحامَهُ، وأقاربَهُ وجيرانَهُ، وأصدقاءَهُ وأحبابَهُ، ويدلُّهُمْ علَى الطاعاتِ، ويُعينُهُمْ علَى فعْلِ الخيراتِ، ويُرغِّبُهُمْ فِي نَيْلِ الحسناتِ، فمَنِ استثمَرَ وقتَهُ فِي هذهِ الأعمالِ، ودعَا الناسَ لاكتسابِ جميلِ الخصالِ أكرَمُه اللهُ تعالَى بالخيرِ فِي الحالِ، وأثابَهُ بالأجرِ عندَ المآلِ، قَالَ : «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً».
وخاتمةُ صفاتِ أهلِ النجاةِ التواصِي بالصبرِ قالَ تعالَى:﴿ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر ﴾ (العصر : 3) والصبرُ خُلُقٌ رائعٌ نَفيسٌ، ويعنِي حملَ النفْسِ علَى لزومِ الطاعةِ وكفَّهَا عَنِ المعصيةِ واحتِمالَ المصائبِ وعدم التسخط عندها، ومَنْ رُزقَ الصبرُ أعطاهُ اللهُ خيراً كثيراً، وجعلَ العسيرَ عليهِ يسيراً، قَالَ : «وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْراً وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ»، وقَالَ أيضا: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ». قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ:« أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» فالتخَلُّقُ بالصبرِ ملاكُ فضائلِ الأخلاقِ كلِّهَا، فمَنْ حازَهُ جمعَ الخيرَ كلَّهُ، قالَ تعالَى:﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (الزمر : 10). قال العلامة ابن سعدي رحمة الله تعالى عن وصايا سورة العصر: «فبالأمرين الأولين يكمل الإنسان نفسه -أي : بالإيمان والعمل الصالح- ، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره -وهما التواصي بالحق وبالتواصي بالصبر-، وبتكميل الأمور الأربعة يكون الإنسان قد سلم من الخسار وفاز بالربح العظيم».
إن هذه السورةَ جليلةُ القدر عظيمة المعنى، ولهذا نقول ما قاله الشافعي رحمه الله فيها: «لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم».
ذ. محمد بوهو