مع سنة رسول الله – اتــق الـلــه حـيـثـمــا كـنـت…


عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله : «اتق الله حيثما كنت. وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن” رواه الإمام أحمد والترمذي.
هذا حديث عظيم جمع فيه رسول الله بين حق الله تعالى وحقوق العباد. فحقّ الله على عباده: أن يتقوه حقّ تُقاته. فيتّقوا سخطه وعذابه باجتناب المنهيات وأداء الواجبات. وقال لمعاذ : “وإذا أسأت فأحسن”. عن أبي ذر قلت يا رسول الله علمني عملا يقربني من الجنة ويباعدني من النار. قال إذا عملت سيئة فاعمل حسنة فإنها عشر أمثالها. < التقوى دلالات ومجالات
فتقوى الله هي وصية الله للأولين والآخرين، ووصية كل رسول لقومه أن يقول: اعبدوا الله واتقوه . وتقوى الله أن يجعل العبد بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه. قال تعالى: هو أهل التقوى وأهل المغفرة . فهو سبحانه أهل أن يُخشى ويهاب ويجل ويعظم في صدور عباده، حتى يعبدوه ويطيعوه لما يستحقه من الإجلال والإكرام وصفات الكبرياء والعظمة وقوة البطش وشدة البأس. ويدخل في التقوى فعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات. وربما دخل فيها بعد ذلك فعل المندوبات وترك المكروهات وهي أعلى درجات التقوى. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ليس تقوى الله تعالى بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك. ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله. فمن رُزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير.
والتقوى أيضا أن يعلم العبد ما يتقي، لأنه كيف يكون متقيا من لا يدري ما يتقي. قال معروف الكرخي: إذا كنت لا تحسن أن تتقي أكلت الربا، وإذا كنت لا تحسن تتقي لقيتك امرأة ولم تغض بصرك.
وقد ذكر الله خصال التقوى في قوله تعالى: لَّيْسَ الْبِر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِن الْبِرُّ مَن آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيئينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ . وفي قوله تعالى: سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . ثم ذكر خصال التقوى فقال: الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .
فوصف المتقين بالإيمان بأصوله وعقائده وأعماله الظاهرة والباطنة، وبأداء العبادات البدنية والعبادات المالية، والصبر في البأساء والضراء وحين البأس، وبالعفو عن الناس، واحتمال أذاهم والإحسان إليهم، وبمبادرتهم إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم بالاستغفار والتوبة. فأمر ووصى بملازمة التقوى حيثما كان العبد في كل وقت وكل مكان، وكل حالة من أحواله، لأنه مضطر إلى التقوى غاية الاضطرار، لا يستغني عنها في كل حالة من أحواله.
< إتْباع السيئة الحسنة : معان وأهمية
ثم لما كان العبد لا بد أن يحصل منه تقصير في حقوق التقوى وواجباتها أمر بما يدفع ذلك ويمحوه. وهو أن يتبع الحسنةَ السيئةَ، “والحسنة” اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله تعالى.
قال ابن رجب: لما كان العبد مأمورا بالتقوى في السر والعلانية مع أنه لا بد أن يقع منه أحيانا تفريط في التقوى، إما بترك بعض المأمورات أو بارتكاب بعض المحظورات، أمره بأن يفعل ما يمحو به هذه السيئةَ وهو أن يُتبِعها بالحسنة. قال الله عز وجل: وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين .
وقوله “وأتبع السيئة الحسنة” قد يراد بالحسنة التوبة من تلك السيئة. وقد ورد أن النبي لما بعث معاذا إلى اليمن قال: “يا معاذ اتق الله ما استطعت وإن أحدثت ذنبا فأحدث عنده توبة، إن سرًّا فسر، وإن علانية فعلانية”. وقد يراد بالحسنة ما هو أعم من التوبة كما في قوله تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات . وقال :” ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة”. فأثبت لهذه الأعمال تكفيرَ الخطايا ورفعَ الدرجات. وكذلك سيئاتُ التائب توبةً نصوحاً تُكفَّرُ عنه وتَبقى له حسناتُه.
وإن من أعظم الحسنات الدافعة للسيئات التوبةَ النصوح والاستغفارَ والإنابةَ إلى الله بذكره وحبه، وخوفه ورجائه، والطمع فيه وفي فضله كل وقت. ومن ذلك الكفارات المالية والبدنية التي حددها الشارع.
ومن الحسنات التي تدفع السيئات: العفو عن الناس، والإحسان إلى الخلق من الآدميين وغيرهم، وتفريج الكربات، والتيسير على المعسرين وإزالة الضرر والمشقة عن جميع العالمين. قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ . وقال :”الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر”. وكم في النصوص من ترتيب المغفرة على كثير من الطاعات. ومع هذا كله فالاعتماد على رحمة الله لا على العمل. قال أحدهم: لا تثق بكثرة العمل فإنك لا تدري أيُقبل منك أم لا، ولا تأمن ذنوبك فإنك لا تدري أكفرت عنك أم لا، إن عملك مغيب عنك كله.
ومما يكفر الله به الخطايا: المصائب؛ فإنه لا يصيب المؤمنَ من هَمٍّ ولا غم ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله عنه بها خطاياه. وهي إما فوات محبوب، أو حصول مكروه بدني أو قلبي أو مالي داخلي أو خارجي. لكن المصائب بغير فعل العبد. فلهذا أمره بما هو من فعله، وهو أن يتبع السيئة الحسنة.
< الوصية بالخلق الحسن مع الناس، قيمته ومجالاته:
ولما ذكر حق الله تعالى، وهو الوصية بالتقوى الجامعة لعقائد الدين وأعماله الباطنة والظاهرة، قال “وخالق الناس بخلق حسن”.
قال ابن رجب: هذا من خصال التقوى ولا تتم التقوى إلا به. وإنما أفرده بالذكر للحاجة إلى بيانه. فإن كثيرا من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله جل وعلا دون حقوق عباده، فنص له على الأمر بإحسان العشرة للناس. فإنه كان قد بعث معاذا إلى اليمن معلما لهم ومفقها وقاضيا، ومن كان كذلك فإنه يحتاج إلى مخالقة الناس بخلق حسن ما لا يحتاج إليه غيره مما لا حاجة للناس به ولا يخالطهم. وكثيرا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته، إهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصير فيها. والجمع بين القيام بحقوق الله تعالى وحقوق عباده عزيز جدا لا يقوى عليه إلا الكُمَّل من الأنبياء والصديقين. عن أبي الدرداء عن النبي قال: “ما من شيء يوضع في ميزان العبد أثقل من حسن الخلق وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة”.
- قال ابن سعدي: وأول الخلق الحسن أن تكف عنهم أذاك من كل وجه، وتعفو عن مساوئهم وأذيتهم لك، ثم تعاملهم بالإحسان القولي والإحسان الفعلي.
- وأخص ما يكون بالخلق الحسن: سعة الحلم على الناس، والصبر عليهم، وعدم الضجر منهم، وبشاشة الوجه، ولطف الكلام، والقول الجميل المؤنس للجليس، المدخل عليه السرور، المزيل لوحشته ومشقة حشمته. وقد يحسن المزح أحياناً إذا كان فيه مصلحة، لكن لا ينبغي الإكثار منه. وإنما المزح في الكلام كالملح في الطعام، إن عدم أو زاد على الحد فهو مذموم.
- ومن الخلق الحسن: أن تعامل كل أحد بما يليق به، ويناسب حاله من صغير وكبير، وعاقل وأحمق، وعالم وجاهل. فمن اتقى الله، وحقق تقواه، وخالق الناس على اختلاف طبقاتهم بالخلق الحسن فقد حاز الخير كله؛ لأنه قام بحق الله وحقوق العباد. ولأنه كان من المحسنين في عبادة الله، المحسنين إلى عباد الله.

ذ. عبد العزيز شاكر

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>