4 . استمداد علم السيرة النبوية الكاملة(3)
علم الشعر والأدب في صدر الإسلام
سبق للدكتور محمد يسري إبراهيم أن بين في الحلقتين السابقتين استمداد علم السيرة النبوية من القرآن الكريم وعلومه، ومن الحديث الشريف وشروحه وعلومه، ومن علم التاريخ العالمي والإسلامي العام وتاريخ المدن، ومن علوم الطبقات وتراجم الصحابة، ومن علم الجغرافيا وكتب معاجم البلدان، ويواصل في هذه الحلقة بيان مصدر آخر يستمد منه علم السيرة هو مجال الشعر والأدب في صدر الإسلام، فكيف يكون الشعر والأدب مصدرا يستمد منه علم السيرة؟
سابعا- علم الشعر والأدب في صدر الإسلام:
بعدَ كُتُبِ التاريخِ تأتي كتبُ الأدبِ، التي حَفِلَتْ بمادة وفيرة من شعر السيرة النبوية، مثل: طبقات الشعراء، لابن سلام الجمحيِّ (231هـ)، والبيان والتبين، للجاحظ (255هـ)، والشعر والشعراء، لابن قتيبةَ الدينوريِّ (276هـ)، والكامل في اللغة والأدب، للمبرد (286هـ)، والعِقد الفريد، لابن عبد ربه الأندلسيِّ (328هـ)، وكتاب الأغاني، لأبي الفرج الأصبهاني (356هـ)، وما ورد في هذه الكتبِ مِن شعرٍ يَتَطَلَّبُ التحقيقَ، والتمحيصَ، بالمقارنة مع ما ورد في المصادر الأخرى، أو ما ورد في دواوين الشعراء الصحابة التي حُقِّقَتْ(1).
وهناك مصادِرُ أخرَى لشعر السيرة، لا تقلُّ أهميةً عن سابقاتها، وهي دواوين الشعر العامَّة والخاصَّة.
فيما يتعلَّقُ بالدواوينِ العامَّةِ، مثل: ديوان الحماسة، لأبي تمام الطائيِّ (230هـ)، وديوان الحماسة، للبحتريِّ (281هـ)، فرغم قِلَّةِ ما ورد فيها من شعر السيرة؛ فهي تُقَدِّمُ الدليلَ على أن شعر السيرة، لا يَقِلُّ جزالةً وفنيةً عن بقية الشعر العربي العالي، ما دام أساس اختيار قصائد هذه الدواوين هو: أن تكون من عيون الشعر العربي.
وأمَّا دواوينُ الشعرِ الخاصَّةُ، فَيُقصَدُ بها دواوين الصحابة، وغيرهم، ممن عاصروا فترةَ السيرة، وقد وصلَنَا بعضُها بصنعةِ الأقدمِينَ والـمُحْدَثِينَ، ومن أهمها: ديوانُ حسانِ بنِ ثابت، الذي طُبِـعَ طبعاتٍ مختلفةً ومتعدِّدَةً، وديوانُ كعبِ ابنِ زهيرٍ، وديوانُ لَبِيدِ بنِ ربيعةَ العامريِّ، وديوان الأعشى البكريِّ، وديوانُ أميةَ ابنِ أبي الصَّلتِ، وديوانُ أبي مِـحْجَنٍ الثقفيِّ، وديوانُ النابغةِ الجعديِّ، وديوانُ كعبِ بنِ مالكٍ الأنصاريِّ، وديوانُ العباسِ بنِ مِرْادَسٍ السُّلَمِيِّ، وديوانُ عبدِ الله ابنِ رواحةَ، وديوانُ عبدِ الله بن الزِّبِعْرَى- بكسرِ الزَّايِ والموحدةِ، وسكونِ المهملةِ، بعدَها راءٌ مقصورةٌ.
ورغم أن أصحاب هذه الدواوين من المشاركين في أحداث السيرة، والـمُسْهِمِينَ فيها، فما يوجد في دواوينهم مِن شعر السيرة شيءٌ يسيرٌ جدًّا، إلا أنه على قِلَّتِهِ له أهميته مِن حيثُ التوثيق، ومِن حيثُ القيمة الفنية في دراسة شعر هذه الفترة، وخصوصًا ما ورد منه في دواوينِ: كعبٍ، ولَبِيدٍ، وأُمَيَّةَ(2).
وبعدَ هذه المصادرِ، على دارسِ السيرةِ أن يستأنِسَ بكتبِ التفسير، وأسبابِ النزول، وكتبِ تراجمِ الصحابة، وكذا كتب اللغة، وكتب البلدان؛ لأنها تشتملُ على قدرٍ لا بأس به مِن شعرِ السيرةِ، لا يَـحْسُنُ إغفالُهُ رغمَ قِلَّتِهِ.
وصفوة القول إن الفترة الزمنية من بعثته [ إلى وفاته قلَّ أن توجد منها واقعة لا أثر للشعر فيها، ومشاركة للقريض بها، ومن ذلك:
الشعر ديوان العرب، ومدونة التاريخ والحضارة، وكتب الأدب والشعر تعج بالأشعار التي حكت حياتهم في جاهليتهم الأولى، وما معلّقاتهم إلا لسان صدق يعبر عن حياتهم ويترجم عن أحوالهم.
وكتب الأدب التي صنفت خلال القرون الثلاثة الأولى تحمل شيئًا كثيرًا من ذلك.
وكتب السيرة ومدوناتها ملأى بأشعار تكاد تشمل مراحلها كافة، حيث أوردت تلك الكتب أشعارًا قبل مولده [ مما يعتبر إرهاصًا لمولده، وأشعارًا تستبشر بولادته، تنقل تارةً عن أمه، وتارةً عن جده، وأخرى عن عمِّه أبي طالب.
أما ما يتعلق بالفترة من بعثته إلى وفاته [ فقلَّ أن نجد واقعةً لا أثر للشعر فيها ولا مشاركة للقريض بها، وهذه لمحات مختطفة، وباقات مقتطفة من أمثلة للتذكير بهذا المصدر الثري.
فهذا عبد المطلب يروى عنه عند ورود الخبر بولادته [:
الحَمْدُ لله الَّذِي أَعْطَاني
هَذَا الْغُلامَ الطَّيبَ الأَرْدَانِ
قَدْ سَادَ في المَهْدِ عَلَى الغِلْمَانِ
أُعِيذُهُ بِالْبَيْتِ ذِي الأَرْكَانِ
حتَّى أَرَاهُ بَالِغَ البُنيَانِ
أُعِيذُهُ مِنْ كُلِّ ذِي شَنْآنِ
مِنْ حَاسِدٍ مُضْطَرِبِ الْعِنَانِ(3)
وفي أمر التحكيم في وضع الحجر الأسود بعد إعادة بناء الكعبة قال أبو هبيرة بن أبي وهب المخزومي:
تَشَاجَرَتِ الأَحْيَاءُ في فَصْلِ خُطَّةٍ
جَرَتْ طيْرهُمْ بالنَّحْسِ مِنْ بَعْدِ أَسْعَدِ
تَلاقَوْا لهَا بِالبُغْضِ بَعْدَ مَوَدَّةٍ
وَأَوْقَدَ نَارًا بَيْنَهُمْ شَرُّ مُوقِدِ
فَلَمَّا رَأَيْنَا الأَمْرَ قَدْ جَدَّ جِدُّهُ
وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ غَيْرُ سَلِّ المُهَنَّدِ
رَضِيْنَا وَقُلْنَا الْعَدْلُ أَوَّلُ طَالِعٍ
يَجِيءُ مِنَ الْبَطْحَاءِ مِنْ غَيْرِ مَوْعِدِ
فَلَمْ يَفْجَنَا إِلا الأَمِيْنُ مُحَمَّدٌ
فَقُلْنَا رَضِينَا بِالأَمِينِ مُحَمَّدِ(4)
وقال الصّدِّيق لما دخلا الغار:
قَالَ النَّبِيُّ وَلَمْ أَجْزَعْ يُوَقِّرُنِي
وَنَحْنُ في سُدَفٍ مِنْ ظُلْمَةِ الغَارِ
لا تَخْشَ شَيْئًا فَإِنَّ اللهَ ثَالِثُنَا
وَقَدْ تَوَكَّلَ لِي مِنْهُ بِإِظْهَارِ(5)
وقال عبد بن جحش س يذكر هجرة الصحابة:
لَمَّا رَأَتْنِي أُمُّ أَحْمَدَ غَادِيًا
بِذِمَّةِ مَنْ أَخْشَى بِغَيْبٍ وَأَرْهَبُ
تَقُولُ: فَإِمَّا كُنْتَ لا بُدَّ فَاعِلًا
فَيَمِّمْ بِنَا البُلْدَانَ وَلْتُنْأَ يَثْرِبُ
فَقُلْتُ لهَا: بَلْ يَثْرِبُ الْيَوْمَ وَجْهُنَا
وَمَا يَشَأِ الرَّحْمَنُ فَالْعَبْدُ يَرْكَبُ
إِلَى الله وَجْهِي وَالرَّسُولِ وَمَنْ يُقِمْ
إِلى الله يَوْمًا وَجْهَهَ لا يُخَيَّبُ(6)
وهكذا بعد الهجرة دونت الأشعار لتلك الأحداث وعبرت عنها أحسن تعبير وأجمله، ومظان هذا الشعر في كتب السير والتاريخ، ومدونات الحديث، وشروحه، وكتب الأدب، وفروعه، كالبيان والتبيين للجاحظ (ت: 255ﻫ)، وطبقات الشعراء لابن سلام الجحمي (ت:231ﻫ)، والشعر والشعراء، لابن قتيبة الدينوري (ت: 276ﻫ)، والكامل في اللغة والأدب للمبرد (ت: 286ﻫ)، وغيرها.
ويمتاز هذا الشعر بالجملة بصحته، وإن كان لا يزال قسم منه بحاجة إلى نقد وتمحيص، وهذا لا يمنع من وجود جهود قديمة في هذا الصدد، ومن ذلك قول ابن هشام عندما أورد لامية أبي طالب: «هذا ما صح لي من هذه القصيدة، وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها»، وعقّب عليه ابن كثير بقوله: «هذه القصيدة عظيمة بليغة جدًّا، لا يستطيع أن يقولها إلا من نسبت إليه، وهي أفحل من المعلقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى منها جميعًا»(7).
ومما تمتاز به تلك الأشعار دقة الوصف وضبط الأعداد، ومن ذلك قول كعب بن مالك ]، وهو يصف غزوة أحد:
فَجِئْنَا إِلى مَوْجٍ مِنَ الْبَحْرِ وَسْطَهُ
أَحَابِيْشُ مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمُقنَّعُ
ثَلاثَة آلافٍ وَنَحْنُ نَصِيَّةٌ
ثَلاثُ مِئِيْنٍ إِنْ كَثُرْنَا فَأَرْبَعُ(8)
ومثل هذا شعر حسان في بدر وفتح مكة وغيرها(9).
وهذا الشعر قد عني كثيرًا بعرض شمائل النبي [ وبيان محاسن أخلاقه ودينه، ومن ذلك قول كعب بن زهير س:
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُوْلَ الله أَوْعَدَنِي
وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ الله مَأْمُولُ
مَهْلًا هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الْـ
ـقُرْآنِ فِيْهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ(10)
وأخيرًا فإنه شعر مفعم بالعاطفة متأجج بالحماسة، ومن أوائل ذلك قول سعد بن أبي وقاص ] حين رمى بأول سهم في سبيل الله، وكان في سرية عبدالله بن جحش:
أَلا هَلَ اتَى رَسُولَ الله أَنِّي
حَمَيْتُ صَحَابَتِي بِصُدُورِ نَبْلِي
أَذُودُ بِهَا أَوَائِلَهُمْ ذِيَادًا
بِكُلِّ حُزُونَةٍ وَبِكُلِّ سَهْلِ
فَمَا يعْتَدُّ رَامٍ فِي عَدُوٍّ
بِسَهْمٍ يَا رَسُولَ الله قَبْلِي
وَذَلِكَ أَنَّ دِيْنَكَ دِيْنُ صِدْقٍ
وَذُو حَقٍّ أَتَيْتَ بِهِ وَعَدْلِ(11)
وهذا ابن رواحة س يقود ناقة النبي [ في عمرة القضاء ويقول:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ
خَلُّوا فَكُلُّ الْخَيْرِ فِي رَسُولِهِ
يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ
أَعْرِفُ حَقَّ الله فِي قَبُولِهِ
نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ
كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ
وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ(12)
د. يسري إبراهيم
————
* المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر العالمي الثاني للباحثين في السيرة النبوية الذي نظم بفاس أيام 28-27-26 محرم 1436 الموافق 22-21-20 نونبر 2014.
(1) شعر السيرة النبوية.. دراسة توثيقية، د شوقي رياض أحمد (ص75).
(2) شعر السيرة النبوية.. دراسة توثيقية (ص81).
(3) الطبقات الكبرى، لابن سعد، ت: إحسان عباس، دار صادر- بيروت، ط1، 1968م، (1/103)، الروض الأنف، ت: عمر عبد السلام السلامي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط1، 1421ﻫ، (2/98).
(4) سبل الهدى والرشاد، لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي، ت: عادل عبد الموجود وعلي معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1414ﻫ-1993م، (2/172).
(5) الروض الأنف، للسهيلي، (4/142)، البداية والنهاية، لابن كثير (3/224).
(6) السيرة النبوية، لابن هشام (2/82).
(7) البداية والنهاية (3/74).
(8) سيرة ابن هشام (3/92).
(9) سيرة ابن هشام (2/280، 382-392)(4/43).
(10) سيرة ابن هشام (4/161).
(11) سيرة ابن هشام (2/229).
(12) سيرة ابن هشام (3/425).