نعم الله على عباده :
إن من نعم الله على عباده الصالحين، أن جعلهم ينعمون بحلاوة الإيمان، وهم يقومون بتأدية عبادة الله بالصلاة أو الصيام أو الحج أو غيرها من الشعائر الدينية، فضلا عن تلذذهم بنعم أخرى كثيرة، كالأكل والشرب والنوم والحركة والتنقل والتفكير في الأمور الدقيقة المعقدة بنعمة العقل الذي ينمو ويكبر، كلما كبر الجسم وتعمق صاحبه في الدراسة والبحث، قال تعالى : {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} ومن نعم الله على المسلمين خاصة أن جعلهم مسلمين، وأرسل إليهم رسولا مفضلا خاتما، وأنزل إليهم القرآن الكريم، ورضي لهم الإسلام دينا.
- الصيام وفوائده:
إن الصيام في الإسلام على خمسة أنواع: واجب، ومستحب، ونافلة، ومكروه، وحرام. وإن صيام رمضان ركن من أركان الإسلام، وهو واجب على المسلمين بالكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات} وفي الحديث عن ابن عمر أن رسول الله [ قال : «بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» (رواه البخاري ومسلم). كما أن للصيام فوائد كثيرة يحصل عليها المسلم الصائم، بعضها خفي كالأجر والثواب، وبعضها ظاهر ينعكس إيجابيا على الصائم في نفسه وجسمه وخلقه ومعاملته مع غيره، ولم تبق هذه الأخيرة خفية، حتى على أولئك الذين لم يؤمنوا بالإسلام ورغم عدائهم المستمر للإسلام والمسلمين، فقد توصلوا أحبوا أم كرهوا إلى حقائق علمية أثبتت لهم، أن الصيام يعالج الكثير من الأمراض، كما يكون واقيا للجسم في الكثير منها.
- ليلة القدر:
إذا كان المسلمون يدركون أن القرآن الكريم أُنزل إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، وهو لا يحمل للأمة الهدى والرحمة فحسب وإنما يحملها للبشرية جمعاء، فينبغي أن تكون هذه الليلة محل عناية واحتفاء بما أُنزل فيها، فتكريمها وقيامها -هو في الحقيقة- تكريم للحدث الذي وقع فيها، وهو نزول القرآن الكريم، آخر كتاب منزل وآخر تشريع إلهي للبشرية كلها، كما ينبغي لهم أيضا أن يعرفوا عن هذه الليلة المباركة، أين وردت؟ وما سبب تسميتها بهذا الاسم؟ وهل كانت في الأمم السابقة أم لا؟ ومتى تكون؟
إن ليلة القدر ورد ذكرها في سورة القدر، التي تعد من السور القصيرة في القرآن الكريم، وهي وترية تحتوي على خمس آيات نزلت على رسول الله [، وهو في المدينة على القول المشهور.
أما عن سبب نزولها، فقد روي عن مجاهد أنه قال : ذكر النبي [، رجلا من بني إسرائيل، حمل السلاح في سبيل الله ألف شهر، فتعجب الصحابة من ذلك، فأنزل الله تعالى هذه السورة {إنا أنزلناه في ليلة القدر…}، وقال مالك في الموطأ من رواية ابن القاسم وغيره: سمعت من أثق به يقول: «إن رسول الله [، أُرِيَ أعمالَ الأمم قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر وجعلها خيرا من ألف شهر.
أما عن سبب تسميتها بهذا الاسم، فقيل: معناها ليلة الحكم والتقدير بحسب الوقائع والأحداث، وقيل : لأن الله تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره إلى مثلها من السنة القادمة، وليس معنى ذلك أنه يقدر ذلك ابتداء، بل يريد سبحانه إظهار ما قضاه في الأزل من الأمور، وهناك من قال: سميت بذلك لعظمتها وشرفها عند الله جل وعلا، أو لأن الطاعة والعبادة فيها لها قدر عظيم. أو لأن الكتاب الذي أنزل فيها ذو قدر عظيم أنزله الله لأمة ذات قدر عظيم، وسواء أخذنا بهذا القول أو ذاك، فالمعنى واحد ما دام يعود إلى قدر وعظمة هذه الليلة عند الله عز وجل.
أما عن كونها هل كانت في الأمم السابقة أم لا؟ فالراجح أنها من اختصاص هذه الأمة، بناء على حديث مالك من رواية ابن القاسم وغيره، فهي إذن خاصة بأمة محمد [.
- فضل قيام ليلة القدر :
إن من خير وفضل ليلة القدر على المسلمين أن الشياطين لا يقْوَوْن على التأثير فيها على مؤمن أو مؤمنة، وأن ملائكة الرحمان تنزل على أهل المساجد من حين غروب الشمس إلى طلوع الفجر. فعن أنس قال: قال رسول الله [: «إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو فاعل يذكر الله تعالى» فهل هناك من خير وفضل أكثر من أن يُكرم القائم في ليلة القدر بتسليم ملائكة الرحمن عليه. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله [ قال : «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» ويندب إحياء ليلة القدر بالصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء، إلى غير ذلك من الأعمال الصالحة التي يثاب عليها المسلم الصائم. روي عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله [ كان إذا دخلت العشر الأواخر، أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر. وروي عنها أيضا أنها قالت : قلت يا رسول الله، أرأيت إن علمت ليلة القدر، ماذا أقول فيها؟ قال : قولي : اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
- من الأسرار الإلهية الكامنة في سورة القدر، وهي كالآتي :
أ- يقول الله تعالى في بداية هذه السورة {إنا أنزلناه} فتعبيره عن نفسه سبحانه بلفظ «إنا» وارد في كثير من الآيات، من ذلك قوله تعالى : {إنا فتحنا لك فتحا مبينا..} وقوله : {إنا نحن نزلنا الذكر…} وقوله : {إنا أعطيناك الكوثر..} وقوله : {إنا عرضنا الأمانة على السماوات …}، ويدل ذلك على عظمة الذات الالهية، وعلى نعمة الامداد من الله تعالى لسائر خلقه فهو وحده مصدر الإنعام. ويجوز التعبير بهذا الضمير لكل جماعة كُلفت باتباع شرع الله تعالى، سواء أكانت من الإنس أو الجن، وقد قال الله تعالى على لسان الجن: {وإنا لما سمعنا الهدى آمنا به}(الجن: 13) والمراد بالهدى القرآن الكريم.
ب- إن الضمير في قوله تعالى {إنا أنزلناه} يعني القرآن الكريم وإن لم يرد ذكره في هذه السورة، لأن المعنى معلوم، فالقرآن الكريم تارة يذكر باسمه، كقوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}، وقوله: {.. حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}، وتارة يشار إليه بالضمير فقط كقوله تعالى : {ومن الليل فتهجد به نافلة…}، وقوله : {فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا}(مريم : 98) ونظيرها في آخر سورة الدخان {فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون}(55-56) وقوله : {وإنه لتنزيل رب العالمين}(الشعراء : 192) فالمعنى أن الله تعالى يخبرنا في هذه السورة أنه أنزل القرآن الكريم جملة واحدة في ليلة القدر، من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ومنها أخذ ينزل بواسطة جبريل عليه السلام، على رسول الله [ نجوما نجوما، في مدة ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والأحداث.
ج- إن سورة القدر تضم في مجموعها ثلاثين كلمة، بحسب عدد أيام الشهر القمري الذي يستوفي ثلاثين يوما، ومعلوم أن الشهور القمرية لا تزيد على الثلاثين ولا تقل عن تسعة وعشرين يوما، ولعل هذا من الأسرار الإلهية في قوله تعالى: {أنزلناه} إذ لم يقل سبحانه أنزلنا القرآن، لأنه لو قال بهذا التعبير لأصبح عدد كلمات السورة يزيد على الثلاثين يوما، بينما إرادة الله تعالى، شاءت أن تكون ألفاظ هذه السورة بعدد مساو لأيام شهر رمضان حين يستوفي الثلاثين.
د- تكرار لفظ «ليلة القدر» ثلاث مرات في هذه السورة، وما ذلك إلا إشارة لعدد حروف هذا اللفظ الذي يساوي تسعة حروف كررت ثلاث مرات فأصبح مجموعها يساوي 27 من أيام رمضان، وهي ليلة القدر على القول المشهور، أي (9*3=27).
أما عن معنى «ما أدراك» أي ما أشعرك بليلة القدر يا محمد. ولا يقال هذا اللفظ إلا إذا كان القدر عظيما وجليلا، لا يمكن أن يستوعبه أحد باجتهاده أو بعلمه إلا الله عز وجل. وهذا تعظيم ليلة القدر، فكان الخير فيها أكثر من أن يدركه عقل البشر.
ـ الضمير المنفصل الوارد في السورة «هي» وقعت في الترتيب (27) وذاك ما يدل على أن ليلة القدر هي ليلة 27 من رمضان. وهو ما قال به مالك والأوزاعي وأحمد وأبي ثور وغيرهم. وقال آخرون بخلاف ذلك. ويعزز القول الأول، ما روى عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله [ قال : «إني رأيت ليلة القدر فأنسيتها، وهي في العشر الأواخر من لياليها، وهي طلقة بلجة لا حارة ولا باردة، كأن فيها قمرا، لا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها».
وفق الله أمة الإسلام لما يرضي الله تعالى والرسول [.
آمين والحمد لله رب العالمين.
ذ. محمد الصباغ