يجادل في كون الأمن أعمق حاجات الإنسان، وفي كونه أعظم شرط لوجود إنساني مليء بالمعنى وجدير بالاعتبار، وفي كون نقيضه «اللا أمن» أعظم خطر يهدد الإنسانية كافة بالمحق والاستئصال، علاوة على إصابتها باللا معنى الذي يفضي -حتما- إلى شعور طاغ بالعدمية ولا جدوى الحياة، وما يصاحب ذلك ويداخله من شبح الاكتئاب الذي يفترس الناس، ويورثهم خليطا مرعبا من الأحاسيس: خوف وتشاؤم، وإحباط وغثيان، ونزوع -عند أقصى درجة من ذلك الإحساس القاتم- إلى الانسلاخ من ثوب الحياة، الذي يظهر لأصحاب ذلك النزوع في لحظة سوداء كالحة، وقد أصبح من فرط الثقب والتمزقات غير قابل للحمل والارتداء، لأنه يكون في منظورهم ذاك، في تلك الحال، وفي ظل ضعف حصن الإيمان، هو والعري سواء.
ولم يعد خافيا على أحد، في عالم يشبه بالقرية المتقاربة الأبعاد، ويعرض شريط أحداثه وتقلباته العنيفة، ومشاهده المرعبة على مدار الساعة، أن أكثر المصطلحات تداولا ورواجا عبر وسائل الإعلام بجميع أصنافها هما مصطلح «الإرهاب» ومصطلح «الأمن»، وربما كانت نسبة تردد الأول أعلى، وقد تكون أولى، لأسباب لا تخفى، شريطة تكييفها وفق إخراج دقيق ونموذج معلوم، قد يكشف البحث والتدقيق عن ثغرات مهولة فيه، تسفر، لا محالة، عن مذبحة رهيبة تتكبدها الحقيقة، وعن سقوط مدو لقيم العدالة والإنصاف، غير أن كل ذلك لا يسلم من التغطية والحجب، لحساب إبراز الصورة المراد إظهارها وفق الأحجام التي يحددها ويقررها عتاة القرية العالمية الذين يوقدون نيرانها بأساليبهم المتعددة والمتنوعة.
ألم يئن بعد الأوان لإظهار الحقائق كما هي ماثلة في الواقع، والكشف عن حصيلة ضحايا نظام كابوسي عالمي مرعب، يسوق الناس تحت سياطه اللاهبة، ويظهر الجلاد في صورة الضحية والضحية في صورة الجلاد؟ ويكيل بالمكاييل وليس حتى بالمكيالين؟
لقد باتت سفينة المجتمع العالمي برمتها، من أعلاها إلى أسفلها تحت سطوة اللا أمن القاهرة، لا يستثنى من ركابها أحد، جزاء وفاقا، ولا يستثنى من مسؤوليتها أحد، على تفاوت بين الأعلين وبين الأسفلين، «ولا يظلم ربك أحدا». ولم يكن هنالك بد من بلوغ سفينة المجتمع الإنساني هذا المستوى من التردي والانهيار بسبب افتقادها لجرعات الأمن الضرورية لجريانها في بحار ومضايق وخلجان غدت ملوثة وملغومة بأشد الألغام انفجارا وتدميرا. ولا غرابة في ذلك ومقاليد تلك السفينة المضطربة البائسة بيد ربابنة حمقى، وأسيري أحلام شيطانية طائشة رعناء، تغلفها ألقاب وشعارات جوفاء، يسبح بذكرها المستلبون والبلهاء، ويستكين لها المقهورون والضعفاء.
إن مما هو معجز في نظم القرآن الكريم المتضمن لشريعة رب العالمين، أن يمن سبحانه وتعالى على قريش بمنة الأمن النفسي والغذائي في قوله تعالى:» فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»، فمن الجلي لأولي الأبصار أن استمرار الأمن وديمومته في جميع أبعاده رهين بشرط لازم وسر مكين، هو تحقيق العبودية لرب العالمين، فهي صمام الأمان، وهي إغاثة اللهفان، وفي غيابها يناله من العذاب والشقاوة صنوف وألوان.
إن من مظاهر البؤس والنكد في عالم اليوم، وداخل سفينته المنخورة الهيكل المخرقة الألواح، أن لا أحد قد أصبح «آمنا في سربه ولا «معافى في بدنه» ولا «عنده قوت يومه»، بالمعنى العميق الذي تضمنه حديث رسول الله ، ذلك بأن كل مقوم من هذه المقومات يوجد تحت سلطان تهديد مافيات اللصوص المتلفعين بسربال مزعوم يحمل لافتة الأمن، والأمن منه براء. بل إن تلك المقومات لتوجد فعلا تحت أنياب تلك المافيات القذرة في ظل استحكام بغيض لقانون الغاب. وهل يجوز شرعا أو عقلا أو شعورا أن يستمتع بعض ركاب السفينة بطعم الأمن وبعضها الآخر منه في حرمان؟ أليس يمارس القتل على البشرية جمعاء بقتل واحد من أفراده، مصداقا لقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}(المائدة:32). فما بالك والقتل مستحر في آلاف الأبرياء، تحت غطاء مكافحة الإرهاب؟
إنه في انتظار أن تجمع القوى المحبة للأمن والسلام أمرها في جبهة صامدة لوقف الظلمة، سيظل خرق اللا أمن جرحا مشرعا تنزف منه الدماء باستمرار، وصدق الله العظيم القائل:» ومَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا».
د. عبد المجيد بنمسعود