معالم من علم التّفسير عند العلامة ابن خلدون (تــ: 808هـ)


لم يكن عبدُ الرحمن بنُ خلدون (تــ: 808هــ) مؤرخا، ولا واضعَ علمِ العُمران البشري، أو ما يسمّى –حديثا– بعلم الاجتماع، أو “السوسيولوجيا” فقط؛ بلْ كان عالما أديبا، وفقيها متصوّفا. وقد ألّف كتابا سمّاه: “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”؛ بيد أنه لم تشتهر منه إلا الـ”مقدمةُ”، إذْ جاءت جامعةً لضروب القول وأفانينه، حيث تكلّم فيها ابنُ خلدون وأجاد وأوعى وأفاد. وقد اشتملتِ هذه “الـمقدمة” على جوانبَ فقهية كثيرة فاقت عدد الأنامل، وحركات العوامل، حيث تحدث في “علوم القرآن من التفسير والقراءات”، و”علوم الحديث”، و”علم الفقه وما يتبعه من الفرائض”، و”أصول الفقه وما يتعلق به من الجدل والخلافيات”، و”علم التصوّف”.
أما علمُ التّفسير في” الـمقدمة”؛ فقد جاء الكلامُ عنه مقتضبا؛ لكن ابن خلدون بيّن المقصود من هذا العلم، وأشار إلى مصادره النقلية والعقلية، فيقول: “وأما التفسير، فاعلم أن القرآن نزّل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلُّهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه”(1). والتفسير –عنده– على صنفين:
تفسيرٍ نقلي مُسندٍ إلى الآثار المنقولة عن السلف، وهي معرفة الناسخ من المنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي، وكل ذلك لا يُعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين. ويمكن أن نحدد هذه المصادر النقلية لتفسير القرآن الكريم التي وردت عند ابن خلدون كما يلي:
أوّلا: تفسير القرآن بالقرآن: وهذا ما يشير إليه بقوله: “وكان -القرآن- ينزّل جملاً جملاً وآياتٍ آياتٍ لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع. ومنها ما هو في العقائد الإيمانية، ومنها ما هو في أحكام الجوارح، ومنه ما يتقدم، ومنه ما يتأخر ويكون ناسخا له”(2).
ثانيا: تفسير القرآن الكريم بصحيح السنة النبوية الشّريفة: فالسنّة مبيّنة للقرآن الكريم، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: وَأنْزَلْنَا إِلَيكَ الذِّكْرَ لتُبَيِّنَ للنّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِم (النحل:44). وقال ابن تيمية (تــ: 728هــ): “..فإن أعياك ذلك، فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له”(3).
وهذا ما نفهمه من قول ابن خلدون: “وكان النبي يبيّن المجمل ويميّز الناسخ من المنسوخ”(4).
وتفسير القرآن الكريم بصحيح السنّة، فيه وجهان، بحسب ما جاء عند ابن خلدون:
بيان المجمل: ومن ذلك آيات الأحكام التي فُرضت فيها العبادات الأربع، وجاء فرضها مجملا، وتولّتِ السنّةُ النبويةُ، قوليةً كانت أو فعليةً أو تقريريةً، بيانَ تفاصيلها، كما أرادها الله .
بيان النّسخ: إن هذا الوجه لا يُعتمد فيه على الرأي والاجتهاد؛ بل على النقل والرواية الصحيحة، وقد كان الرسول ، في تفسيره للصحابة يبيّن لهم الناسخ من المنسوخ من القرآن الكريم.
لا شك أن معرفة ناسخه من منسوخه معرفة عظيمة، وعلم ذو شأن كبير. وقد أُلّفتْ فيه مصنّفاتٌ جمّة سهر على تدوينها نفرٌ من العلماء الحذّاق الذين طارت شهرتهم في الآفاق، يقول الزّركشي (تــ: 794هــ): “قال الأئمة: ولا يجوز لأحد أن يفسّر كتابَ الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ، وقد قال عليّ بن أبي طالب لقاصّ: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: الله أعلم، قال هلكت وأهلكت”(5).
ويقول ابن خلدون: “ومعرفة الناسخ والمنسوخ من أهم علوم الحديث وأصعبها وكذا علوم القرآن”(6).
ثالثا: تفسير القرآن الكريم بما صحّ عن الصحابة : يقول ابن خلدون: “وكان النبي يبين المجمل والناسخ من المنسوخ. ويعرّفُهُ أصحابُه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منقولا عنه، ..ونُقل ذلك عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وقد تداول ذلك التابعون من بعدهم ونقل ذلك عنهم، ولم يزل متناقَلا بين الصّدر الأول والسلف حتّى صارت المعارفُ عُلُوماً..”(7).
قال ابن تيمية: “إذا لم تجد التفسير في القرآن الكريم، ولا في السنة، رجعت في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوه من القرآن، والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح لا سيما علماؤهم وكبراؤهم”(8).
وذكر الزّركشي، بأن تفسير الصحابي للقرآن بمنزلة المرفوع إلى النبي . وكان الصحابة ، يتفاوتون في العلم بالتفسير، بحسب معرفتهم بأسباب النزول، ثم بحسب اطلاعهم على اللغة العربية.
رابعا: تفسير التابعين: أما تفسير القرآن الكريم بما رُوي عن التابعين ففيه اختلافٌ بين العلماء، والاحتجاج به حاصلٌ وثابت، بدليل قول ابن تيمية: “إذا لم تجد التفسير في القرآن، ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر، فإنه آية في التفسير، وكسعيد بن جبير…وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم”(9).
أهم المصنفات في التفسير عند ابن خلدون:
هذا، ويشير ابن خلدون إلى أهم المصادر والمظان التي أُلّفتْ في هذا الصنف الأول من التفسير، فيقول: ” ونُقلت الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين، وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي وأمثال ذلك من المفسرين، فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار”(10).
وعندما شابت كُتُبَ التفسير كثيرٌ من المنقولات الغثة احتيج إلى التَّبَيُّنِ والتمحيص، “جاء أبو محمد بن عطيّة من المتأخرين بالمغرب فلخص تلك التفاسير كلها وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس حسن المنحى، وتبعه القرطبيّ في تلك الطريقة على منهاج واحد في كتاب آخر مشهور بالمشرق”(11).
إذا كان هذا عن الصنف الأول من التفسير عند ابن خلدون؛ فماذا عن الصنف الثاني من التفسير؟. ففي “الـمقدمة” صنفٌ ثانٍ من التفسير يُرجع فيه إلى اللسان من معرفة اللغة والإعراب والبلاغة، والرجوع إلى شعر العرب، الذي لم يكن لهم علم أصح منه. والشعر –كما يقول محمود الطّناحي– “حُجّةُ المفسّر”. وهذا الصنف من التفسير إنما –هو– تابعٌ ومساعد للصنف الأول من التفسير؛ إذِ الأول هو المقصود بالذات. وورد في “الـمقدمة” قولٌ في “علوم اللسان العربي” فيقول ابن خلدون: “أركانه أربعة: وهي اللغة والنحو والبيان والأدب ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة”(12).
ولعل أهم كتاب يرجع إلى هذا الصنف من التفسير، كتاب: “تفسير الكشاف”، للعلامة جار الله الزمخشري (تــ:538هــ)؛ وقد شرح العلامة شرفُ الدّين الطّيبي (تــ: 743هــ) كتاب “الكشّاف” شرحا حسنا، حيثُ يقول الحافظ شمسُ الدّين بن علي الداوُدي (تــ: 945هــ) عن تلخيص العلامة الطّيبي: “شرح “الكشاف” شرحا حسناً كبيراً، وأجاب عما خالف فيه الزمخشري أهل السنة بأحسن جواب”
إن الناظر في علم التّفسير عند ابن خلدون يجد أنه يقدم العدّة للمفسّر، ويمكّنه من المصادر النقلية والعقلية التي لا غنى للمفسّر عنها؛ فالـمقدمة -إذاً– تحتاج إلى متلقٍ أديب، وفقيه أريب وعالم ذكي ولبيب يستطيع فكّ شفَرَات “النص الخلدوني”، ويسبر أغواره بشكل يجعله يلم آراء ابن خلدون وتعليقاته المبثوثة –هنا وهناك– بين مختلف القضايا الفقهية والعلمية ونظراته الواسعة في آفاق العمران البشري والعمران العلمي التي جادت بها مقدمتُــه برؤية عميقة وبصر واسع بسنن الاجتماع البشري في السياسة والاقتصاد والمعرفة العلمية.
ذ. محمد حماني
————-
1 – مقدمة ابن خلدون، تأليف عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، طبعة جديدة كاملة مصححة ومشكلة، الطبعة الثانية 2006/ دار صادر، بيروت، ص: 325.
2 – نفسه.
3 – مقدمة في أصول التفسير، ابن تيمية، تح: عدنان زرزور، الطبعة الأولى 1391هـ/ دار القرآن الكويت، ص: 93.
4 – مقدمة ابن خلدون، ص: 325.
5 – البرهان في علوم القرآن، للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية/ المكتبة العصرية، صيدا – بيروت، ص: 2/ 327.
6 – المقدمة، ص: 327.
7 – مقدمة ابن خلدون، ص: 325.
8 – مقدمة في أصول التفسير، ص: 95.
9 – مقدمة في أصول التفسير، ص: 102، وما تلاها.
10 – مقدمة ابن خلدون، ص: 325.
11 – المقدمة، ص: 326.
12 – المقدمة، ص: 441.
طبقات المفسرين، تصنيف الحافظ شمس الدين محمد بن علي بن أحمد الدّاوُدي المتوفى سنة 945هـ، راجع النسخة وضبط أعلامها لجنة من العلماء بإشراف الناشر، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت،لبنان، ص: 1/ 147

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>